الجمعة، ١٠ أكتوبر ٢٠٠٨

عيد ميلاد الكتابة..

2007-10-10
:
2008-10-10

انه عيد ميلاد المدونة.. ويوم اتمام عامها الأول..
لا يسعني فى هذه اللحظة السعيدة سوى تقديم الشكر الى كل من ساهم وأبدى رأيًا.. ساخطًا كان أو مؤيدًا..
وإني لأهدي هذه الفرحة الى الله تعالى صاحب الفضل الأول فيها..

وربما يحسن التذكر:

"آلة الزمن".. تنبؤ غريب بأحوال مصر المعاصرة
مسيو ابراهيم وزهور القرآن
أفعال معتادة..
عن التطرف.. والتطرف!!
ثم دنا..
إليكما..
أثبتوا استحقاقكم لبنان..
إشكالية الفن.. فيلم "حين ميسرة" كنموذج
د. إيهاب يونس
حكمة إلهية خفية..
تقديرًا للسائق الذي فهم..
تشكيل هوية المملكة المسيحية داخل الإطار العالمي..
لبنان فى الإطار العالمي..
ها السيارة مش عم بتمشي..
مصر.. ثوابت نسيت فى الزمن الصعب
وجه أخر لعبقرية الإسلام..
د. جمال حمدان.. للجغرافيا مذاق النور
الإمبريالية كرسالة أخلاقية.. انجلترا نموذجًا (1)
الإمبريالية كرسالة أخلاقية.. انجلترا نموذجًا (2)
أشياء تصنع أيامي..
قوس قزح معطر..
أمنية الغيطاني المستحيلة.. وأمنيتي!

الأربعاء، ١٠ سبتمبر ٢٠٠٨

؟!

تحية الى كل الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم فقط ليخبرونا أن هناك من يسرقها منا..
اهداء خاص جدا الى شهداء العبارة الغارقة السلام98 وأخص بالذكر منهم الشهيد أنس شعيب
****
تعرف هذا فى السماء الغائمة.. عيون من حولك.. تقرأه على صفحات جباههم التى كتبت عليها أقدارهم.. لو سألت أى حمار الأن لقال لك - ببساطة - السفينة تغرق.. هؤلاء مجموعة من الغرقى..
• سألنى والرعب يملأ وجهه: هل السفينة تغرق؟
نظرت له فى اشفاق..
هذا أحمق أخر يتمنى أن أقول له لا ليستريح..
لذا.. أجبته بمنتهى الاشفاق: بالتأكيد..
تركنى.. لم آبه به.. نحن الأن أقرب الى يوم الدينونة..

****
النصيحة الأولى فى الكتيب غير المكتوب للأمان البحرى على السفن التى تحمل أعلامًا بنمية:
(دعك من تطمينات الطاقم.. هم - الأرجح - مجموعة من الحمقى)
فووووووووووو.. لا تنزعج.. ذلك صوت السفن حينما تنقلب على أحد جانبيها..
شخص ما يسأل:سيدى رئيس البحارة..هل السفينة تغرق؟
_لا..لا..اطمئن كل شئ تحت السيطرة..
كدت أشد فى شعرى..هذا هو الجنون بعينه..لكننى قررت عدم الاكتراث..
أحمق يسأل مجنونا..ماذا تتوقع..
البعض يقترح أن نذهب للجانب الأخر لنوازن السفينة..لكنك تعرف:
(لو سألت أى حمار الأن لقال لك_ببساطة_:
هذه السفينة تغرق..هؤلاء هم مجموعة من الغرقى)
النصيحة الثانية فى الكتيب غير المكتوب للأمان البحرى على السفن التى تحمل أعلاما بنمية:
قبطان السفينة التى تحمل أعلاما بنمية هو القبطان الوحيد الذى يستمر بالابحار رغم وجود حريق بمؤخرة سفينته..
نقطة أخرى:
للمرة المليون.. دعك من تطمينات الطاقم.. طوال عمرك تتلقى التطمينات.. لكن أحدا من هؤلاء الحمقى لايعيش الحياة كما تعيشها ولا يعرف كم هى سوداء كما تعرفها.
سيدى القبطان:هل السفينة تغرق؟
- لا.. لا.. اطمئن.. اطمئنوا جميعا.. كل شئ تحت السيطرة
- لكننا نرى نارًا فى المؤخرة؟!
فى ضجر واضح رد: ونحن نطفئها بأحدث الطرق العلمية.. نغرق المؤخرة فى الماء ثم نحاول انتشالها.. صحيح أنه هناك ثمة مشاكل فى انتشالها لكن اطمئنوا جميعا.. كل شئ تحت السيطرة..!
لم أعلق..
لو كان ذلك القبطان يعتقد أنه يتعامل مع مجموعة من الرضع فأنا لست منهم..

****
لو سألت أى حمار الأن لقال لك - ببساطة -:
هذه السفينة تغرق، هؤلاء مجموعة من الغرقى.
****
النصيحة الثالثة فى الكتيب غير المكتوب للأمان البحرى على السفن التى تحمل أعلاما بنمية:
كنت طربوشًا يا عزيزى، السفينة تغرق، وأنت تستحق أن تكون معها، سفينة ليست بنمية وتحمل أعلامًا بنمية، طاقم من الحمقى، ركاب يصدقون تطمينات الطاقم، حريق فى المؤخرة، ميل وعدم اتزان على الماء، لو كان هناك كتالوج لكيفية غرق السفن التى تحمل أعلامًا بنمية لما تضمن أكثر من هذا.
نهايته..
الأن.. وقد أصبح الماء قريبا جدا منك، عليك بسترة النجاة.
قال لى فى رعب: السفينة تغرق..
- أنت عبقرى.. انها تغرق منذ قرنين.. ألم تعرف سوى الأن؟!.. هذا الشئ يصلح لأن يلعب به الأطفال فى أطباق مياههم.. لا أن يواجه البحر الحقيقى.. ربما كانت المراكب الورقية أكثر متانة منه.
- والعمل؟!

- لا شئ..عليك بسترة النجاة.

- لم يوزعوها..ياللمصيبة؟!
تمالكت أعصابى بصعوبة حتى أقول له فى غيظ مكتوم: اسمعنى يا عزيزى.. لو لم تحصل على سترة نجاة ستموت.
النصيحة الرابعة فى الكتيب غير المكتوب للأمان البحرى على السفن التى تحمل أعلاما بنمية:
وصلت الى الماء.. نهنئك بسلامة الوصول ونرجو عدم فك أربطة سترة النجاة.. وقت الرحلة الى النجاة أو الى الأخرة (حسب تأشيرة عزرائيل) يستغرق20 ساعة على الأقل.. لا أحد يتحرك لانقاذ غرقى سفينة تحمل أعلاما بنمية قبل مرور 20ساعة، هذه هى القواعد.. أنت لا تعرفها.. لذا نحن هنا لنقولها لك..
النصيحة الوحيدة لك الأن: حاول ألا تغرق أطول وقت ممكن، وقدر الإمكان - لأجلك - حاول تفادي أسماك القرش، لأنها شرسة جدًا هنا. نتمنى لك رحلة سعيدة..

****
من بين كل العيون التى رأيتها منذ وطئت قدماى الأرض كانت هاتان العينان تختلفان..
ثمة عيون لهفى تنتظر أخبارا عن ذويها، عن - حتى - جثثهم
عيون حزينة عرفت بالحقيقة..
لم يعد هناك أب.. أم.. أخ.. زوج.. زوجة.. ابن.. حفيد
عيون فرحة بمالاقاة الأحبة لكنها - مع ذلك - تحاول مداراة فرحها مراعاة لحزن الأخرين.
وعيون ترتدى ربطات العنق وتنظر لك بشماتة قائلة:انها سفينة تحمل أعلاما بنمية، ماذا نفعل أكثر من هذا لنخبرك انها غير صالحة يا أحمق..
لكن..
كانت هاتان العينان تختلفان..
كانتا تريدان الفهم أكثر من أى شئ أخر..
قال لى فى هدوء وهو يضغط زر التسجيل فى جهازه: ليس ثمة ما يخيف.. استرخ.. استرخ تماما.. لن أستخدم معك أية وسيلة من الوسائل العلمية المعقدة التى تسمع بها.. كل ما فى الأمر أنك انسان تعرض لأزمة ما.. كل ما عليك هو أن تتكلم لتخرج منها.. قالوا لى أنك مذهول.. قالوا لى أنك لم تنطق بحرف واحد منذ أن نجوت..
لكن..لا يهم..
فترة من الصمت..
صوتى المتحشرج الذى لم يخرج منذ فترة خرج ليقول له وأنا أتفحص عيناه بشدة:أنت تريدنى أن أتكلم لأنك تريد الفهم.. ليس لأن هذا عملك.. ربما كان الأصح أن أخذ أنا منك الفزيتة..
ضحكت عيناه ضحكة خفيفة ثم أشار لى أن أتابع فتابعت مسترجعا الذكريات الأليمة: كل ما فى الأمر ان عبد الحميد لم يكن يستحق ذلك على الاطلاق.. لو كانت النجدة تقدمت5 دقائق فقط لكانت أنقذته.. لكنى أعذرهم..انهم يطبقون القواعد..
- أية قواعد؟
- قواعد انقاذ الحمقى الذين يثقون بسفينة تحمل أعلامًا بنمية، عشرون ساعة فى الماء عقاب لابأس به على الاطلاق لهم..
تابعت فى هدوء أكثر:أتعرف طوابير أفران العيش..صداقات عديدة تنشأ هناك للتغلب على الملل ولتمضية الوقت.. صداقتى أنا وعبد الحميد كانت كذلك.. سقط بجوارى فى الماء.. أنقذ معى الكثيرين..بكى معى الكثيرين.. سب معى مجموعة(............)الذين تأخروا عنا. .ثم لم يلبث أن أدرك أنه حان وقت الفراق وأن تذكرته الى الأخرة وأن نداء رحلته هو أقوى من الجميع.
صعيديا كان.. لهجته- رغمًا عنه - تذكرك بالأرض.. وجهه الملئ بطمى النيل يذكرك - رغما عنك - بالأرض السمراء التى أنجبته..
حكى لى عن كل شئ فى حياته.. زوجته.. أولاده.. شقيقاته التى تغرب لأجلهن وهاهو يعود نهائيا بعد أن احتفل بزفاف صغراهن العام الماضى..
قطعة الأرض التى يحلم بها.. التليفزيون والفيديون والثلاجة الذين بعثهم لأولاده الشهر الماضى..
بلهجة تقطر دموعا تابعت: لسبب ما أحببته.. لسبب ما عشقت الأرض التى تتبدى فى كل حركاته وسكناته..لذا لم أصدق أن تتحول كل هذه الحيوية والحياة والأرض الى مجرد رقم فى نشرة أخبار..
جثة حتى لن يجدها أحد.. لن يكون له قبر يزوره أقاربه.. أبنائه.. شقيقاته التى تغرب لأجلهن.. لن يذهبوا ليزوروه فى الأعياد، لن يقرأو على قبره الفاتحة، لن تدوم فرحتهم بابن أخته الصغرى الذي أنجبته منذ شهرين.
- ثم؟
- ثم مات..غرق
- وبالتالى انت تعتبر نفسك مسؤلا عن موته لأنك لم تنقذه مع أنك فعلت كل ما بوسعك لانقاذه.. القصة دائما هكذا.
- أقسم أننى كدت أغرق مع جثته لولا أن نبهتنى غريزة البقاء الى ما أنا مقدم عليه فى أخر لحظة..
- لم أقل سوى هذا.. اذا أنت تعانى من عقدة ذنب لم ترتكبه.
- نعم!
- وتعرف أنك تعانى من عقدة ذنب لم ترتكبه بدليل أنك تعرف أنك كدت تغرق مع جثته..
- ..................
- وتريدنى أن أحل لك هذه المشكلة..
- جئتك لأننى رأيت فى عينيك الرغبة فى الفهم..الفهم يحتاج الى معلومات وها أنت قد حصلت عليها..
ها.. هل فهمت لماذا غرقت السفينة بنا؟
أجاب فى سخرية واضحة: مجرد سوء حظ..سوء تقدير.
أنت نفسك قلت أنك رأيت العيون التى ترتدى ربطات العنق وتنظر لك بشماتة قائلة:انها سفينة تحمل أعلاما بنمية.. ماذا نفعل أكثر من هذا لنخبرك أنها غير صالحة يا أحمق؟!
البراكين تثور والبشر العاديين هم أكثر المتضررين من أثارها المدمرة لكن أحدا باستثناء العلماء يعرف لماذا تثور..
كذلك السفن.. تغرق ولا أحد باستثناء علمائها وفنييها والمحققين في كوراثها.. لكن غرق السفن التى تحمل أعلامًا بنمية بينما هى ليست بنمية ليس علمًا صعبا، هذا نوع من الرياضيات السهلة التى نعلمها لأولادنا فى الابتدائية.
1+1=2 بكل تأكيد.
سألته وأنا مبهور بهذه الاستنتاجات العبقرية: والخلاصة؟
أخذ نفسا عميقا من أنفه وقال فى هدوء شديد: لا يحتاج المرء الى عبقرية أينشتين ليعرف أن سبب غرق سفينة تحمل أعلامًا بنمية هو أنها تحمل أعلامًا بنمية!
ثم تسائل مقربًا عينه من عينى وهو يشير بسبابته الى رأسه:هل فهمت؟


تمت بحمد الله
القاهرة فى23 مارس2006

الأحد، ١٠ أغسطس ٢٠٠٨

قوس قزح معطر..

تستدير الحكاية..
كهيئتها الأولى تبدو ..
وأبدو أنا كقاتل.. نعم أنا قاتل..
أتطلع الى الجدران.. ( تسند اليها فى ذهابه الأخير )
الطلاء أبيض، وكل طلاء المستشفيات أبيض، لا تعرف ان كان هذا لمداراة سواد الحزن الذي يطبق عليها دومًا ويترك آثره فى طلائها، أم أن الجدران عندنا فقط - في فلسطين - تكتسب لونها من زغاريد فرحة الإستشهاد.
أتطلع الى الجدران. أحاول التركيز. أى أثر تركته أصابعه النحيلة على الجدار. لو وجدته لقضيت أيامي كلها فى البكاء عنده. لصنعت منه حائط مبكى أخر. حقيقى هذه المرة.أتذكر حكمته الدائمة: لو كانت الكلمات تقتل لما استطعنا جمع أشلاء اسرائيل بملقاط، لكنك ترى معي أولاد الكلب هؤلاء يريردون منعنا حتى من الكلام.
الجد نجاح كان عجوزًا، فى الثمانين من عمره كما أخبرني. جاؤوني به وأخبروني أن اليهود قد ضربوا منزله بصاروخ. فقد اصبعين من يده اليمنى، ويده اليسرى، ملابسه عبارة عن خرقة معفرة، كان يتلو وأنا أضمد جراحه. لمست حقنة البنج جلده فتأوه بعمق جعلني أرتعب. تحمل ملامحه أثار جروح قديمة. ( قال لى فيما بعد أن ندبتين من ندبات وجهه قد ظهرتا بعد استشهاد زوجته وحفيده الأكبر)، أما قدماه فمليئة بحفر صنعتها الرصاصات. حين أفاق طلبت منه - تسرية عنه - أن يحدثني عن العمر الفائت.انطلقت منه أهة خفيفة لا أعرف ان كانت من الجسد أم من تألم الذكريات. يمتلك ذاكرة خرافية. حدثني عن قضاء يافا حيث ولد. كيف كانوا يزرعون البرتقال؟ كيف كان الإنجليز - أولاد الحرام - يأخذون برتقال يافا - أحسن برتقال فى العالم - بأبخس الأثمان، وكيف جاء اليهود. كان فى العشرين من عمره حين وقعت النكبة، فقد فيها بصديق عمره الصغير- وقتها - حسين، وفقد فيها ما هو أهم. فقد يافا. وأحيانًا كان يضحك. أنظر له متعجبًا: ومالذى يضحكك يا جد؟ اليهود - أولاد الكلب - لهم الأن ثمانين عامًا يحاولون قتلي ولم يعرفوا، ضربوا البيت فى المرة الاولى، وعمرته،ضربوه ثانية، فعمرته، الأن ضربوه الثالثة، ولا أعرف ان كان الله سيعطيني القدرة على أن أعمره ثالثة أم لا.
- أطال الله فى عمرك يا جد.
ثم طلب مني أن آذن له بالخروج لأنه يرى أنه قد تحسن، كما أن هناك من أهم أحوج منه الى سريره. قلت ألا تريد أن تنورنا قليلاً حتى نطمئن عليك يا جد، ثم اين تذهب؟! البيت اصبح طللاً لا يصلح للسكنى.
ألمح في عينيه غضبًا خافتًا، ثم تصميمًا..
- سأعمره، ولو ضربوه ألف مرة وكان بداخلي نفس واحد يتردد سأعمره.أحاول التخفيف عنه لكنه يصر أن يخرج. لم أر أن حالته تستدعي البقاء أكثر كما أنه بالفعل هناك من هم أحوج منه الى سريره.
قلت: فلأوصلك يا جد الى بيتي تستريح قليلاً، وغدًا نر ما يمكن فعله.
بتصميم رد: لا.. سأبيت فى بيتي

- !!!!
ثم بلهجة تضرع أب الى ولده: أوصلني اليه.
ومن فى غزة كلها لا يعرف بيت الجد نجاح. فى الطريق وجدته يبكي. احترمت بكائه ولم أشأ السؤال عن السبب تطفلاً، ثم انه ليس غريبًا أن يبكي المرأ فى فلسطين، الغريب ألا يبكي.
لكنه أجاب عن تساؤلاتي كلها بإشارة واحدة الى جدار متهدم وقال بصوت مبحوح: هنا استشهد محمود حفيدي، كان يصد اجتياحًا يهوديًا معتادًا، جائني به زملاءه - أو بما تبقى منه - من وهم يبكون وحكوا الحكاية. نفدت ذخيرته ولم ينفد جنود العدو بعد. بقيت معه قنبلة يدوية واحدة. نظر وراءه فرأى بيت أم علي الشهيد. زوجها قعيد لإصابة سابقة. بقية أسرتها بنات. لو عرفوا أنه حاربهم من هنا فسيهدمون البيت على من فيه ظنًا أن من فيه قدموا له المساعدة. قام بحركة التفاف رائعة، اعمى الله بها أعداءه عنه، ثم نزع فتيل القنبلة وحشرها فى حزامه وانقض بها على 3 من جنود العدو وهو يصيح الله أكبر، فقتلهم جميعًا، وحمى الأسرة الضعيفة من شرورهم.جاءت أمه على عجل لترى ما تبقى من ابنها، لم تلمح سوى ابتسامة على وجهه، زغردت، وزغردت معها كل نساء الحي.
التفت لأرى بيته أمامي، يقف وحيدًا شامخًا. طلل شامخ، ككرامتنا. رأيت نظرة عينيه تحثني أن اسرع الخطي، أوصلته وأجلسته الى بقايا جدار متهدم، ثم طلب مني أن أعود الى المستشفى، فهناك يحتاجونني أكثر.أو تبقى هنا وحدك يا جد؟! هذه أرضي يا ولد، صحيح أنني من هناك.( يشير الى الشمال ) من يافا. لكن فلسطين كلها أرضي. ثم من سيفكر أن يضرب طللاً كهذا، هناك بيوت كثيرة تحتاج الى صواريخ، ثم من يدري؟ ( يضحك بمرارة ) ربما هم ينتظرون أن أعيد بناءه حتى يضربوه ثانية.
نظرت اليه فى اشفاق. يحاول أن يداري دمعة فى عينيه لكنها تعانده وتسقط على خده، أسرع اليه بمنديلي الورقي، لكنه يرفض يدي الممتدة اليه ويخبرني أن هذه الدموع هي ما تذكره بأن له حقًا على اليهود، وسيأخذه، وله ثأر عند اليهود، وسيسفك فى سبيله دماء اليهود كلها لو استطاع.تصنعت الحزم مع نفسي - حتى لا أنفجر باكيًا - ثم استأذنته فى الرحيل فأذن.
وأه من فعل الرحيل هذا، كم كانت الساعة وقتها؟! السابعة مساءً، أم هي السابعة وخمس دقائق، أم السابعة و6 دقائق و35 ثانية.وأين كنت، ولماذا لم أبق معه؟!
بعد أن تركته لم تترك قلبي كلماته، ظل صداها يتردد داخل ردهات عقلي، وجدتها مكتوبة على صفحة السماء ومأطرة بعدد من النجوم الخافتة. وبدت نهنهته الخافتة كخلفية صوتيه لعالمي الصامت، لكن فجأة، غطي عليها - على النهنهة - صوت طائرة حربية بغيض، نظرت الى الأعلى فوجدته، غراب معدني أسود يطلق مخالبه نحو بيت مجاور على بعد شارعين منى.
ثم بوم..
ينفجر البيت، الصوت، و يكاد رأسي ينفجر به، وتنفجر معه أصوات سيارت الإسعاف الخافتة، لكني لم أبه كثيرًا، أحاول أن أضع كلمات مدير المستشفى فى رأسي. لا يوجد أسهل من الموت فى غزة. هل هذا حق؟! أراقب الغراب الأسود. دار نصف دورة. ترى هل رأني؟! وهل أستحق صاروخًا يضربني وحدي، انما هو يضرب البيوت الأمنة، هم يريدون افساد قنبلتنا الديموجرافية، كل صاروخ بعشرة فلسطينيين، بمائة فلسطيني، بألف فلسطيني، بمليون فلسطيني، بفلسطين كلها ان أمكن. راودني خاطر مضحك، مسابقة بين طياري الجيش الإسرائيلي على من يقتل أكبر عدد منا بصاروخ واحد، الجثث تبدو واضحة فى التليفزيون ويمكن عدها. نسيت ما يمكن أن يحدث بعد ذلك لأن الغراب اقترب مني جدًا ونعق بصوته البغيض. بعد أن مر صوته تذكرت روايات الرعب القديمة، وجود غراب يعني فأل شؤم. رددت على نفسي ساخرًا: وما هو الغريب فى ذلك بالنسبة لمكان كغزة؟ مرت فى خاطري صورة مفزعة جعلتني ألتفت الى الغراب مسرعًا لأرى ماذا يفعل فرأيته ينقض على نقطة أدركها عقلي مسبقًا، ظهرت الصورة فجأة كنقطة فى قلب الأفق المحمر، ثم امتدت لتستولي عليه كله. صحت. صرخت.. جريت نحو الطلل .. صرخت: لااااااااااااااااااااااااااا
لكن الغراب كان أسرع مني، ومن أنا حتى أسبق غرابًا شريرًا؟!، وانزلقت مخالبه بقوة الشر الذي صنعها كي تهدم الجدران الباقية بعناد، كي تحول الطلل الى حفرة كبيرة ترقد فيها روحي الى جوار الجد نجاح.( عرفت فيما بعد - ربما على سبيل السخرية - أن هذا الغراب بالذات هو من ضرب المنزل فى المرة الأولى، وقد راهن زملائه من الغربان السود الأخرين أنهم حين يعودون معه لن يجدوا طوبة سليمة فى منزل استهدفه، وحين عاد ووجد بعض جدرانه لا زالت صامدة، ثارت سخرية زملائه، وثارت معها ثائرته، فداعب الجدران الشامخة بصاروخ أخر، وأخير).
نحو الطلل جريت. لم يعد طللاً، صار حفرة كبيرة، مجرد حفرة كبيرة مغطاة على الأقل بطن من الحجارة والتراب، صرخت:
يا جد..
يا جد..
يا جد..
يجيبني الصمت، ونواح الإسعاف القادم من بعيد، بدأت أزيح أكوام الحجارة والتراب بيدي، بأظافري، تنهمر دموعي وأصرخ مناديًا التراب وأكوام الحجارة:

يا جد..
يا جد..
يا جد..
يجيبني الصمت، وصراخ الإسعاف الذي اقترب، يمضي الغراب بعيدًا الى قلب السماء وقد أدى مهمته.
وأنا لا أزال أصرخ، يأتي الإسعاف أخيرًا.. ينزل الرجال ويحاولون مساعدتي وأنا أقول لهم، أنا من جئت به الى هنا، أنا الدكتور حسن ابراهيم الساعدي قتلت الجد نجاح، جئت به الي حيث يقتله الغراب الأسود الكبير، ضحكت، ثم طفقت أبكي بحرقة. أدركوا أنني لست فى حالتي الطبيعية، وأنني أبكي أكثر مما أساعد، فطلبوا مني التوقف، لكني لم أتوقف، منعوني بالقوة، كتفني أحدهم حتى يتمكنوا من اعطائي حقنة ..
أم كانت منومة؟!
فى الحلم رأيته..يرتدي الأبيض ويقف على جبل أخضر، وحول يديه تدور مجموعة من عصافير الجنة تلتقط الحب منها، ومن فوقه تبدو السماء منقوشة باسمه، واسم حفيده الشهيد، ومأطرة بمجموعة نجوم متألقة تتحرك ذهابًا وجيئة كأنها فى نوبة حراسة، يأتي الأرجواني من الشمس ليعطر المكان. مكان قلبه تبدو ماسة تشع بكل ألوان قوس قزح. تفوح الألوان فى الهواء، ومعها رائحتها العطرية الأخاذة.
سألته: ما هذا يا جد؟
قال: هذه أرواح الشهداء.
- وما قوس قزح هذا يا جد؟
- ليست الشهادة مجرد استفادة خاصة يا ولد، ينزل الله بركتها على أهل الشهيد، وكلكم أهلي.
ستعرف حين يسري الأحمر فى قلوبكم.. لتنير.
والبرتقالي - لون يافا - فى أرضكم.. لتزهر.
والأصفر.. فى صحرائكم.. لتأكل العدو.
والأخضر.. فى شبابكم .. ليثمر.
ثم صمت. سألت: وبقية الألوان يا جد؟! ضحك ضحكة خفيفة ثم غمز بعينيه كأيام الشباب ورد: يجب أن تأتي لتعرف.
وأردف فى حزن شفيف: صدق مديرك، ليس أسهل من الموت فى غزة.
أستيقظ، لأجد نفسي على سريره الذي كان، أهي صدفة؟!

أتطلع الى الجدران..الطلاء أبيض، وكل طلاء المستشفيات أبيض، لا تعرف ان كان هذا لمداراة سواد الحزن الذي يطبق عليها دومًا ويترك آثره فى طلائها، أم أن الجدران عندنا فقط - في فلسطين - تكتسب لونها من زغاريد فرحة الإستشهاد.




الجمعة، ٨ أغسطس ٢٠٠٨

فليرحمهم الله..

أذكر ذلك اليوم بكل وضوح ,صباح الجمعة ذات يوم بارد كئيب , عندما أيقظتني أمي في فزع :
الحق ,بنت عمتك وولادها لسه ماجوش وبيقولوا فيه عبارة غرقت
قمت مفزوعا , لأتأكد أني لا أهذي , لأتأكد أنه ليس هناك خطأ ما في الأمر , مرت دقائق حتى استعدت توزاني , وعندما خرجت لأجد الأسرة كلها واجمة أدركت أن الأمر جاد الى درجة الموت ,بعد اتصالات مع السعودية اتضح الأمر , أصبح الموضوع قطعيا لا استئناف فيه ,بنت عمتي وبنتها وابنها على متن العبارة المنكوبة
أذكر أسود أسبوع مر علىَّ في حياتي , أذكر كل التفاصيل الدقيقة التي عشتها لحظة بلحظة
أذكر (أنس) الذي كان قطعة من روحي وبضعة منيِّ , أنس الصغير ذو الأربعة عشر عاما الذي – لأجل قدره – كانت هذه هى المرة الأولى في حياته التي سيزور مصر شتاءا ,كانت المرة الأولى..والأخيرة
أذكر عشرات الاقرباء الذين ذهبوا الى سفاجا من فورهم,الليالي الطويلة الباردة في الميناء في فبراير , أذكر دخولى المشرحة من أجل التعرف على الجثث , دعواتي من أجل أن أجد الجثة وسط أكداس الجثث الملقاة في ممرات المشرحة (أنس) الذي كان يملء الأرض مرحا ,أصبح جثة هامدة نحاول أن نتعرف عليها, أحاول أن أجدها وسط تلال الجثث
لم أنس حتى هذه اللحظة وقت أن عرضوا صور الجثث التي تم العثور عليها , كل صورة تمر أدعو الله أن يكون هو , وقتها هبط ضغطي بصورة مخيفة وضعف تنفسي وسال العرق البارد على جبيني , ارتجاف عضلات ساقي في توتر
أذكر ذلك الفتى الذي كان يبحث عن أباه وتصادف أن يجلس جانبي , ننتظر في هدوء ونعلم جيدا أن قضى الأمر
نتبادل الكلمات الوجيزة , تلك اللحظات العصيبة صنعت منه ومني رجالا قبل الأوان بكثير,علمتنا أن نكون أكثر هدوءا وحكمة , أن ننتظر في صبر, لا أذكر مسيحيا كان أو مسلما , قاهريا أم صعيديا , كل هذا لا يهم , عندما يصبح أقرب الناس اليك في عرض البحر تتلاشى هذه الفوارق , ان المصائب يجمعن المصابينا
هل جربت هذا الاحساس من قبل ؟ أنا جربته
أنت تحس بالألم لأن عزيزا عليك مصاب بوعكة , أنا كنت أتمنى أن أجد جثته !, كنت أتمنى أن أجده حيا , عرفت أن هذا صعب , قلت فليعد ميتا , عرفت أن هذا أصعب , لكنهم حرموني منه حتى من جثة أحملها بيدي , أصلى عليها صلاة أخيرة , حرموني من قبر أزوره أقرأ عليه الفاتحة في خشوع , كل شئ تحطم في لحظة عابرة.. في نزوة فاجرة
لازلت أذكر ثانية بثانية دخول شاحنة عملاقة تحمل الجثث القادمة توا من سفاجا , أذكر قيام الرجال مرة واحدة واحاطتهم بالعربة , تلك الدموع التي سالت في صمت , دموع رجال فوضوا أمرهم الى من لا يغفل ولا ينام, أذكر صراخ النساء الوحشي المتصاعد , الصراخ الذي يمزق نياط القلوب , كل منهم فقدت رجلا كان الأهم بحياتها , كل واحدة منهن يوجد بجانبها من يحتضنها في تلك اللحظة , أسمع عبارات مختلطة , (كفاية بقى يا أمه) , (شدي حيلك يا ستي الحاجة) , ( كان مكتوب لك فين دا يابني) ,( ربنا يقصف عمر اللي خدوك من حضني يا ضنايا) سأظل أحمل مرارة هذه اللحظة في حلقى حتى أموت , أذكر هذه اللحظة – حتى الآن - فتسيل دموعي في صمت
أذكر هذه الأيام بكل تفاصيلها وكأنها حدثت الأمس
الآن وبعد مرور عامين صدر الحكم ...براءة
في ذلك اليوم الأسود عندما سمعت الحكم احتشدت الدموع بعيني , 1034 مصريا ماتوا غرقا , هؤلاء المئات الذين عاشوا في الماء والظلام والبرد ساعات طويلة , من المسئول عن دمهم ؟ من سيعوضهم ؟ , من سيعوض (سحر) عن ابنتها الرضيعة التي حملتها على كتفها طيلة الليل وحينما ماتت الرضيعة تشبثت بجثتها وعندما أنقذوا الأم سقطت منها جثة ابنتها للأسماك ,من سيعوضها عن ابنتها يا سيادة القاضي, من سيعوض (محمد) عن زوجته وأبناؤه الأربعة الذين فقدهم دفعة واحدة. من سيعوض كل هؤلاء, من سيعوضني عن أسود أسبوع عشته في حياتي؟
سيادة القاضي , هل تذكرت يوم تقف بين يدي الله , وحيدا , وحيدا جدا , ماذا ستقول وهو الجبار المنتقم , بأى أساس تحكم بالبراءة , هذه الأرواح التي ذهبت هدرا , ماذا ستقول يوم ان تسأل بأى ذنب قُتِلَت ؟ , اذا كان الجميع براءة الا واحدا حصل على ستة أشهر , من الجاني اذن , هل نحن أولاد كلاب الى هذه الدرجة ؟
سيادة القاضي من أعطاك الحق في هذا الحكم ؟ ممدوح اسماعيل ليس ربا ليقتلني بمشيئته , ممدوح اسماعيل ليس الله حتى يأخذ أرواحنا كما يحب ويرضى ,سيادة القاضي.. نحن في عصر رئيس يقتلنا ليثبت أنه موجود
أذكر بوضوح عندما ظهر في( البيت بيتك) مع تامر أمين , تامر أمين الذي تعامل معه برقة شديدة , ممدوح بوجهه الخنزيري يكاد لولا الحياء يطالب بتعويض عن سفينته الغارقة , أذكر طاقم العبارة الناجي الذين وصفوا اللحظات الأخيرة والتمعت الدموع في عين كل منهم وهم يذكرون العشرات الذين فقدوهم وسط الامواج , من سيرد حق هؤلاء يا سيادة القاضي؟
من المسئول عن كل مرة تتساقط الدموع من عيني وأذكر مئات الشهداء , وأذكر أنس الصغير الذي مات في عرض البحر أصبح طعاما للأسماك, مات وحيدا غريقا خائفا في أسوء طقس ممكن وفي ليلة مظلمة , لم أودعه الوداع الأخير , لم ألقنه الشهادة, لم أسمع آخر كلماته , كان هنا وفي لحظة انتقل الى عالم آخر عند من لا ينسى ولا يظلم
وفي النهاية ...براءة
اذا كان هذا هو القانون , اذن طظ في القانون , طظ في أى قانون لا يعيد حقا الى أصحابه
أنا لا أؤمن الا بالقانون الأزلى العين بالعين والسن بالسن ومن قتل يقتل
طالما تمنيت أن يلقوا بذلك الحيوان في عرض البحر في نفس الظروف , لا , فليقوا بابنه وليعش طوال العمر بحسرته حتى أشفى غليلي
يا سيادة القاضي , منذ الآن أصبجت جلاد دنشواى الجديد, لقد حكمت بالبراءة , براءة شخص وادانة عصر بأكمله
عصر فقدنا فيه كل شئ , وفقدنا فيه القضاء العادل , فقدنا حائط الصد الأخير, فقدنا آخر شئ يحمينا في زمن الطوفان
اللهم اليك المشتكى
اللهم اني أشكو اليك قوما قتلونا وظلمونا
يارب ليس لنا ملجأ الاك
يارب لا تتركنا فرادى ضعفاء
يارب ليس لنا سواك
يارب , لاتتركنا في هذه اللحظات الصعبة
يارب لا تخذلنا
رب ان تك حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير وانتقم لنا من هؤلاء الظالمين
رب اني مغلوب فانتصر
فلتهنأ أيها الحيوان بالبراءة , أدعو من الله أن تموت من غيرأن ينفذ عليك حكم ,لا توجد أى محكمة على وجه الأرض تعيد من ماتو وتشفي غليلي , لذا فقد أجلت محكمتي الى يوم الدين , رفعت قضيتي عند اله عادل جبار منتقم شديد العقاب, محكمة لا تحتاج الى شهود نفى وثبات وأدله ومرافعات , وقتها فقط سأقول أني رضيت وأن الله يمهل ولا يهمل.

___________________________
بقلم صديقي العزيز الشاعر: محمد فوزي خلف

السبت، ٢ أغسطس ٢٠٠٨

أشياء تصنع أيامي..

صديقى وجاري العزيز الطبيب الصيدلي د. سامح عبد المنعم قال لي بعد أن رأى المدونة، وكنت قد أرسلتها له أثناء محادثة ماسنجرية عابرة، أنه قد فوجئ بأنني " عاقل الى هذه الدرجة "، وبغض النظرعن أن هذا اطراء مبالغ فيه، وبغض النظر أيضًا عن اقتراب هذا الإطراء من الصواب أو من الخطأ، فقد ضحكت ساعتها..
الا أن المفاجئة الكبري بالنسبة لى حين وجدت دعوة ، invitation، على موقع ال facebook الشهير منه للإشتراك فى مجموعة بعنوان " حزن يميل للممازحة "
قلت أنني لا أستحق، لكنه أخبرني - بلباقته المعهودة - أن هناك أشياءًا كثيرة " هايفة " تصنع لها مجموعات على ال facebook، ومدونتك لن تكون أخر هذه الأشياء..!
وضحك..
فضحكت وشكرته..
" حزن يميل للممازحة "

السبت، ٢٦ يوليو ٢٠٠٨

حقيقة..

" ليحرص المؤرخون والأركيولوجيون على ألا يتركوا الإنطباع بأن نظم النيل ودجلة - الفرات أصبحت مواطن الحضارات القديمة الراقية بطريق أى نوع من أنواع الصدفة، وإنما كان الأمر خطة عامدة وضعها الجغرافي الأعظم "

الثلاثاء، ٢٢ يوليو ٢٠٠٨

الإمبريالية كرسالة أخلاقية.. انجلترا نموذجًا... 2


الخطاب الإمبريالى البريطانى: جدول الفئات الحضارية والإختراع العنصري للعالم



تصنيف حضارى


( المتحضرة ) " فئة 1"

العالم الأول


( البربرية ) " فئة 2"

العالم الثانى


( المتوحشة ) " فئة 3"

العالم الثالث

الدول


بريطانيا فى قمة الفئة الأولى، وأوروبا الغربية فى الفئة الأولى


مثل: الإمبراطورية العثمانية، الصين، سيام واليابان


مثل: أفريقيا، استراليا ونيوزيلندا

لون العرق

المزاج

الخصائص المناخية

الخصائص الإنسانية

نظرية الاستبداد الشرقى

نظرية بيتربان

مبادئ الشرعية الإجتماعية

مبادئ الشرعية السياسية


الأبيض

منضبط / يعمل بكد

بارد ورطب


مسيحى

ديمقراطية – ليبرالية – حرية – فردية – عقلانية

أبوى / ذكورى، مستقل، مبتكر، عقلانى

البريطانيون كشعب مختار، أو العرق السيد


ذو سيادة ( مساحة مسكونة ذات حدود )


الأصفر

كئيب / سوداوى / قاس

جاف واستوائى

( مسلم = وثنى )

استبداد – عبودية – جماعية – لا عقلانية

مراهق / نسوى، مُقلد، غريب وغير عقلانى

شعب منحط

بدون سيادة / حكم إمبريالى غير مباشر (مساحة مسكونة بدون حدود )


الأسود

لا مبال / منحل

مجدب

ملحد / وثنى

استبداد الحكومة أو غيابها، جماعية، لا عقلانية

طفولى/ نسوى، اعتمادى، لا مبال، غير عقلانى

الإنسان الطبيعى فى الحالة الطبيعية الأولى

أرض دون صاحب / حكم إمبريالى مباشر ( أراض غير مأهولة أو ضائعة

النوعية الحضارية الناتجة


طبيعية


منحرفة


منحرفة

المصدر: كتاب الجذور الشرقية للحضارة الغربية
بروفيسور جون هوبسون - أستاذ العلاقات الدولية فى جامعة شيفيلد
ص261
اصدارات مكتبة الأسرة 2007

** ** **

قبل أنا أشرح تأثير المرحلة الثانية - مرحلة العنصرية العلمية - على الحركة الاستعمارية الأوربية، أود أن ننظر لتأثير ذلك نموذج مستعمرة شهير وهو القارة الأفريقية، حتى يتم تطبيق ما سأقوله بعد ذلك عليها

** ** **
"
كانت الإمبراطورية البريطانية بمثابة بناء فذ من التجارة الأمريكية والقوة البحرية البريطانية مشيد على أساسات أفريقية "
melaky Postlethwaite

** ** **

" إننا لن نسمح بأى حالٍ من الأحوال بعرقلة هذا النشاط الذى ثبت أنه عظيم الفائدة لشعبنا "
وزير المستعمرات البريطانى "Darthmauth" معلقًا على دعوات بعض الانسانيين بضرورة وقف تجارة الرقيق

** ** **

.. وكانت قافلة الرقيق تصل الى الساحل - بعد الغارات الأوروبية على القرى الآمنة لجلبهم - سيرًا على الأقدام، وتتكون من الرجال والنساء والأولاد، ولكن الرجال كانوا يكونون الأغلبية العظمى. وكانوا يربطون بالحبال كل اثنين معًا، ويمتد خط الرقيق الى عدة مئات من الأمتار، وكل صفين متتابعين أو أكثر كان يجمعهم عمود كبير من الخشب Slave Stik يربط الى أعناق الرقيق متتابعين، وقد تطلق أيديهم ليتاح لهم أن يحملوا على رؤوسهم بعض الأغذية أو السلع التجارية الأخرى التى تسير معهم، كالعاج والذهب، وخلف كل جماعة من العبيد فرد أو أكثر يتولى مراقبتهم وبيده سوط لا يتوانى عن ضربهم به وبقسوة بالغة، فى حال تقاعسهم عن السير.
وكان الضعفاء يسقطون اعياءًا نتيجة لعدم وجود قدر من الأغذية أو الرعاية الصحية، فيقتلون أو يتركون ليلقوا مصرعهم على الطريق. وقد ظلت عظام هؤلاء المساكين الذين لقوا حتفهم فى الطريق علامات بارزة توضح الطرق التى سلكها هؤلاء التعساء حتى القرن 19 .
وكانت هناك 3 طرق تسير عليها السفن فى المحيط الأطلسى، أولها الطريق الشمالى الذى كان يتجه الى الشاطئ الشرقى لأمريكا الشمالية، والثانى هو الأوسط الذى يتجه الى جزر الهند الغربية، ثم الجنوبى الذى يتجه الى ساحل البرازيل الشرقى.
أما السفن البريطانية فقد كانت لها رحلة خاصة سميت باسم " المثلث الدموى "، تخرج السفن من بريطانيا حاملة منتجاتها الصناعية الى غرب وجنوب أفريقيا ثم تخرج منها مستبدلة شحنتها بالعبيد الى سواحل جزر الهند الغربية، فتستبدلهم هناك بمنتجات هذه البلاد من قصب السكر والبن عائدة الى بريطانيا.
وكانت الرحلة عبر الأطلنطى بالغة القسوة، لا مثيل لها فى أهوالها، ويصعب على العقل أن يتخيلها، فعلى سبيل المثال كان العبيد الذين يشحنون من أنجولا يموت منهم ما بين 20% : 30% من إجمالى الأعداد التى يتم شحنها بسبب المرض أو الانتحار أو الاختناق داخل سفن العبيد نتيجة لتكدسهم بأعداد ضخمة تفوق مقدرة استيعاب هذه السفن.
وقد أشارت بعض الدراسات التى تعرضت الى هذه التجارة البشعة الى أن القارة الأفريقية فقدت ما يربو على المائة مليون أفريقى، مما يوضح بجلاء ما تعرضت له القارة من عمليات نزح بشرية رهيبة، أثرت بدورها على تلك المجموعات الأمنة اجتماعيًا واقتصاديًا. وكانت الخسارة الضخمة لقوة العمل الأفريقية تمثل خطورة كبيرة لأنها غالبًا كانت تشكل من الرجال والنساء اللائقين بدنيًا وصحيًا، وكان تجار الرقيق يفضلون دومًا أن يكون ضحاياهم فى أعمار تترواح ما بين 15 :35 عامًا.
وكانت سفن العبيد قد تم بناؤها وفقًا لوضع خاص، فقد كانت صغيرة الحجم قليلة الحمولة، وكانت مقسمة تقسيمًا أفقيًا على هيئة أرفف عرض الواحد منها 3 أقدام يوضع عليها الرقيق وأيديهم مصفدة بعد أن يتم توزيعه على جانبى السفينة فكان الرجل فى ناحية والنساء فى الناحية الأخرى ومعهن أولادهم.
وإذا كان الربح يتضاعف كلما زاد العدد، فقد كانت السفن تحمل أكبر عدد ممكن حتى قد لا يتمكن الرقيق من الدوران حول أنفسهم، وكانت السفينة التى تبلغ حمولتها 150 طنًا تحمل أكثر من 600 عبد.

وفيما يتعلق بانجلترا التى قدر لها أن تلعب دورًا هامًا وحيويًا فى هذه التجارة البشعة، فقد كانت أول محاولة من جانبها للوصول الى الدنيا الجديدة، تلك التى قام بها " Sir. Wallter Raly " عندما قام بتأسيس أو مستعمرة بريطانية هناك أطلق عليها اسم " Virginia " ثم أخذت بريطانيا تتوسع فى استعمار أمريكا وجزر البحر الكاريبى ( جزر الهند الغربية )

وفى محاولة من بريطانيا لكسر إحتكار البرتغال لمكاسب تجارة الرقيق الأفريقى، تألفت العديد من الشركات البريطانية، منها " شركة المغامريين الملكيين لأفريقيا " والتى تأسست نتيجة لتدعيم الملك شارل الثانى لمجموعة من التجار الانجليز ومنحهم امتياز الاتجار مع أفريقيا، وتكوين شركة لهذا الغرض، وقد تغير اسم الشركة فى عام 1672 الى " الشركة الافريقية الملكية " والتى كان ملك انجلترا ذاته من بين حملة أسهمها ومؤسسيها، وأنيط بهذه الشركة مد المستعمرات البريطانية ب 3000 عبد سنويًا على أن يكون ثمن العبد معادلاً لثمن طن واحد من السكر آنذاك ( 17 جنيهًا استرلينيًا ).
ومما هو جدير بالملاحظة والذكر أن الشركات البريطانية كانت تعمل أولاً فى حقل تجارة الذهب، ثم بدأت تتجه الى تجارة الرقيق منذ عام 1663 عندما حصلت شركة المغامرين على إمتياز العمل والاتجار فى أفريقيا، كما حصلت على عقود تتيح لها تصدير الرقيق الافريقى الى المستعمرات الاسبانية والبريطانية عبر المحيط. وقد بلغ عدد الرقيق الذى ارسل الى المستعمرات البريطانية فى العالم الجديد فيما بين عامى 1680 : 1786 نحو مليونين ونصف المليون من الرقيق، وكان عدد من يصل أحياء من هؤلاء لا يتعدى النصف نتيجة لظروف الرحلة الكارثية التى كان يتعرض لها هؤلاء التعساء.
وكان للرقيق الافريقى الدور الأعظم فى الثورة الصناعية فى انجلترا خصوصًا وأوروبا عامة، فانه إذا كانت حركة الكشوف الجغرافية هى التى مهدت للثورة التجارية التى قامت بدورها بجلب الرقيق الى انجلترا وكانت عظامهم ودمائهم هى وقود أفران الثورة الصناعية الانجليزية التى قامت بدورها بدفع عجلة الاستعمار نحو القارة الافريقية سريعًا، فأصبح أكثر شراسة وضراوة وأشد نهمًا من ذى قبل، بعد إذ اكتشفوا أن القارة تمتلك الكثير من الموارد الطبيعية والتعدينية التى تحتاجها مصانع أوربا.
وقد تجلت قمة التعبير عن الموقف العنصرى البريطانى الكامن فى تحويل الأيدى العاملة السوداء الى سلعة عن طريق تجارة الرقيق، فتجارة العبيد من الزنوج والأفارقة بشكل عام مكنت الصناعة البريطانية من التقدم - على الأقل - فى 7 سبل رئيسية نلخصها فيما يلى:
1- تتمثل المساهمة الأولى فى المكاسب التى نتجت عن طريق العبيد، وقد قلل( Roger Anesty ) و ( Stanley Ingerman) الخبير الاقتصادي من جامعة روشستر من ذلك بادعاء أن المكاسب من تلك التجارة كانت قليلة جدًا اذا ما قيست كنسبة من الاستثمار والدخل القومى ( الجدل بالنسب الضئيلة ). ومع ذلك وتعليقًا على بيانات (انجرمان ) تجادل ( بربارة سولو ) بأنه فى عام 1770 شكلت المكاسب من تجارة الرقيق ما يقرب من 8% من إجمالى الاستثمار، و 39% من إجمالى الاستثمار التجارى والصناعى.. هذه النسب ليست نسب ضئيلة، بل هى نسب ضخمة جدًا، ولغرض المقارنة أضيف أنه فى عام 1980 فى الولايات المتحدة الأمريكية بلغت نسبة المجموع المشترك للأرباح المحلية الى الاستثمارات الخاص 40%، فضلاً عن ذلك، لا توجد صناعة أمريكية وحيدة اليوم تحقق أرباحًا تصل الى 8% من مجموع الاستثمارات. ويكفى فى هذا الصدد أن نعرف أنه بلغت المكاسب من تجارة العبيد فى أعوام 1784 : 1786 كنسبة من الاستثمار البريطانى الكلى ثلاثة أضعاف النسبة التى مثلتها صناعة السيارات الأمريكية فى الاستثمار الأمريكى ككل، وذلك بعدها بمائتى عام!
ورغم ذلك نجد تقدير (Roger Anesty) لأرباح تجارة العبيد لا تزال أكثر بخلاً مما قدمه (Ingerman ) الذى تشير بياناته الى أن الأرباح شكلت 11,.% فقط من الدخل القومى، وهى نسبة تثير ما يكفى من السخرية لتحطيم أهمية الدور الذى لعبته تجارة العبيد فى تمويل الثورة الصناعية البريطانية.
والمهم أن ما تحجبه هذه الأرقام هو تطبيق جدال ( النسب الضئيلة ) بنفس الطريقة على مستويات الاستثمار الرئيسية فى صناعات القطن والحديد ، والتى كانت القاطرة بالنسبة للصناعة البريطانية، وبالفعل شكلت مستويات الاستثمار فى هاتين الصناعتين بشكل فردى نحو 22,.% من الدخل القومى فى الفترة ما بين 1780 : 1800.
لاحظ أيضًا أن ليفربول كانت على مقربة من صناعة القطن فى لانكشاير، مما أتاح منفذًا جاهزًا لبعض المال المتراكم ومما يلفت النظر أنه بافتراض نسبة إدخار تصل الى 7% من الدخل القومى، نستخلص أن أرباح تجارة الرقيق كانت قد رفعت إجمالى الاستثمارات الى بنسبة 11, غير ذات الشأن إلا أن هذه الأرقام لا تعكس بدقة علاقة الأرباح بالاستثمار، والتى سوف تكون أقوى من ذلك. وإذا افترضنا أن 50% من الأرباح ذهبت الى صناعة القطن، فإن ذلك كان سيمول مابين 25% : 30% من مجموع الاستثمارات الصناعية، وهى أرقام تشير الى نظرية ( النسب الكبيرة ).
فى كلتا الحالتين فإن المشكلة الملحة مع هذا الجدال تكمن فى أن يقدر أثر الرقيق الأسود على الصناعة البريطانية من خلال أرباح تجارة العبيد فقط. ومن ثم يفترض أنه لو كانت أرباح تجارة العبيد غير هامة بالنسبة للصناعة، فإن نفس الشئ يسرى على تجارة العبيد نفسها. واكن يغفل هذا الافتراض المساهمات العديدة التى قدمتها الأيدى العاملة السوداء،بالاضافة الى الأرباح وما نتج عنها، والتى كانت لها أهميتها للصناعة البريطانية فيما لا يقل عن 6 مجالات أخرى.
2- مساهمة أفريقية ثانية تتمثل فى إعادة استثمار الأرباح الناتجة عن استغلال ملاك المستعمرات من البريطانيين للأيدى العاملة السوداء فى الأمريكيتين.
فبعد عام 1750 كان العديد من مزارع ( عمالة ) العبيد السود مملوكة لأصحاب أراض من البريطانيين المتغيبين. كان ذلك يعنى أن الأرباح الأساسية الناتجة عن صادرات تجارة المستعمرات وجدت منفذًا مباشرًا فى الصناعة البريطانية. ومن الأهمية ذكر أنه بنهاية القرن 18 بلغ الدخل من من الأملاك الاستعمارية 50% من إجمالى الاستثمار البريطانى. وباعتبار أن الكثير من ذلك كان يمكن إعادة استثماره فى الصناعة البريطانية، فإن ذلك وحده كان يمكن أن يوفر إضافة هائلة للصناعة. علاوة على ذلك، فى 1770 شكلت الأرباح من تجارة التصدير من جزر الهند الغربية وحدها 38% من مجموع الاستثمارات البريطانية الخاصة أو 2.5% من الدخل القومى.
يعنى هذا أنه كان يمكن أخذ 15% فقط من هذا المبلغ لتمويل جميع استثمارات صناعة القطن البريطانية ( هذه هى نظرية " النسب الكبيرة ").
3- المساهمة الأفريقية الثالثة هى أنه فى عام 1801 على سبيل المثال، قام صافى عائدات الصادرات البريطانية بإعالة ما يقرب من نصف القوى العالملة غير الزراعية فى انجلترا وويلز. كان حوالى 60% من تلك التجارة فى ذلك الوقت مع منطقة تركز العبيد الأمريكيين والعبيد الأفارقة، ويعنى ذلك أن المستهلكين الزنوج والعبيد السود قاموا بإعالة حوالى ثلث مجموع القوى العاملة غير الزراعية فى انجلترا بالإضافة الى سكان ويلز. ويعتبر هذا وحده مساهمة ضخمة جدًا.
فضلاً عن ذلك لو أن العمال الانجليز و( الولش- The Walsh ( سكان ويلز ) ) الذين عالهم الزنوج قاموا برد8% من دخلهم ( نسبة الإدخار الشخصى المحلية السائدة )، لمول ذلك وحده ما يقل قليلاً عن نصف إجمالى الاستثمار فى صناعة القطن، وهى علامة أخرى على نظرية ( النسب الكبيرة ).
4- نجد مساهمة متميزة من العبيد الزنوج فى إمداد مستعمرات الأطلنطى للصناعة البريطانية بالمواد الخام والخدمات ومن الأهمية هنا ذكر أنه فى نهاية القرن 18 بلغت نسبة السلع / المواد الخام المنتجة بيد الأفارقة فى الأمريكات نسبة كبيرة بلغت83% ( وبقيت عند 69% عام 1850).
الأكثر بروزًا هنا هو توفير القطن الخام الذى كان ينتج فى الأمريكات بواسطة العبيد السود بشكل شبه حصرى. ومع ذلك إدعى (إنجرمان) أن قيمة الناتج من تجارة العبيد لم يشكل نسبة ذات شأن من الدخل القومى البريطانى ( جدل النسب الضئيلة ).
إلا أنه بدون القطن الخام الذى أنتجه العبيد، لم يكن لصناعة القطن البريطانية أن تلعب هذا الدور المحورى فى الصناعة الانجليزية بوجه عام.
وبشكل له أهميته يشير (Kennith Pomeranz ) أنه عندما انقطعت صادرات القطن الأمريكية المعتمدة على عمال العبيد فى الفترة ما بين 1861 : 1962 ( خلال الحرب الأهلية الأمريكية ) إنخفض الاستهلاك البريطانى للقطن بنسبة 50% كما تضاعفت الأسعار. وخلال عام واحد فقط، خفضت مصانع لانكشاير ما لديها من أيدٍ عاملة الى النصف، كما أفلست العديد من الشركات. ومن اللافت هنا أن البريطانيين استجابوا لذلك بالتحول الى إمدادات القطن الخام المصرية ( بالإضافة الى وارادات القطن الخام الهندية )، وبذلك استمر اعتمادهم على الأيدى العاملة السوداء.
5- ساهم كل من تجارة العبيد والناتج من إنتاج العبيد فى تحفيز المالية البريطانية بشكل هائل. وقد توسع كل من بنك باركليز وبنك لويدز كنتيجة لبعض هذه الأرباح ( كما حدث لبنوك أخرى أصغر).
إنتعشت المؤسسات المالية البريطانية بشكل كبير نتيجة الاحتياج الشديد الى الائتمان ( بالاضافة الى التأمينات) من جانب مالكى العبيد وأصحاب مزارع العبيد من البريطانيين.
ويكفى أن نعرف أن حوافز التأمينات لتجارة العبيد وتجارة جزر الهند الغربية بلغت 63% من إجمالى سوق التأمين البحرى البريطانى.
6- تجلت مساهمة أفريقية سادسة للصناعة البريطانية فى إجمالى الأرباح الناتجة عن الصادرات البريطانية للإمبراطورية. وعلى سبيل المثال، فى أعوام 1784 - 1786 شكلت هذه الأرباح ما وصل الى 55% من إجمالى الاستثمار البريطانى، أو 64% من مجموع الاستثمارات الخاصة ( 80% من هذا الرقم يأتى من التجارة مع أفريقيا والأمريكات ).
تأتى أهمية ذلك من أن المبالغ المستثمرة فى صناعة القطن شكلت 4% فقط من مجموع الاستثمار البريطانى، ومن ثم سوف تأخذ 9% من الأرباح من التجارة الثلاثية - المثلث الدموى الذى أشرنا إليه بالأعلى - لتمويل إجمالى إستثمارات صناعات القطن. ومن الواضح أن نسبة 9% لهى رقم بخس للمبالغ غير الصافية الناتجة، التى غالبًا ما كانت ستتجه للاستثمار فى الصناعة البريطانية بوجه عام. وليس بأقل أهمية ذكر أن إجمالى أرباح التجارة الإمبريالية كان أكثر كثيرًا جدًا من المجموع الإجمالى للاستثمارات البريطانية، وذلك لأن الكثير من الصادرات التى اتجهت الى أوروبا كانت فى الواقع عبارة عن إعادة تصدير لمنتجات مستوردة من المستعمرات ( جاءت بشكل رئيسى من مستعمرات العبيد السود). معنى ذلك، أن الأمر كان يتطلب أقل بكثير من 9% من الأرباح الناشئة عن طريق المثلث التجارى من أجل تمويل صناعة القطن البريطانية. (ربما 6% فقط ).
7- وأخيرًا تكمن مساهمة أفريقية سابعة فى واقع أن نظام التجارة الثلاثى لم يتح أرباحًا كبيرة فحسب، بل وفر أيضًا طلبًا كبيرًا على الصادرات البريطانية، لو لم يوجد لكانت الصناعة البريطانية تقيدت بشكل كبير، وبينما كانت هذه الأسواق هامة بالنسبة لأنواع عديدة من الصناعات، إلا أنها كانت مع ذلك أساسية بالنسبة لنشأة صناعتى الحديد والقطن شديدتى الأهمية بالنسبة لانجلترا فى ذلك الوقت.
** ** **
" سهول أمريكا الشمالية وروسيا هى حقولنا للقمح والذرة، شيكاجو وأوديسا حقولنا للحبوب، كندا والبلطيق هى غاباتنا للأخشاب، وتوجد فى استراليا مراعينا للأغنام، وفى الأرجنتين والبرارى الغربية لأمريكا الشمالية توجد قطعاننا من الثيران، تبعث بيرو بفضتها إلينا، ويتدفق ذهب جنوب أفريقيا واستراليا الى لندن، والهنود.... يزرعون لنا الشاى، بينما مستعمراتنا توفر لنا القهوة والسكر والبهارات التى تُزرع كلها فى أرجاء الهند... وحقولنا للقطن التى احتلت لفترة طويلة جنوب الولايات المتحدة، امتدت الآن لتصل الى كل الأجزاء الدافئة على الأرض... إن أجزاء الكرة الأرضية الأربعة ترغب فى الخضوع لنا "
** ** **
" لم يقدموا نسخًا كربونية من الاقتصاديات الصناعية الأوروبية. على العكس، بقيت المستعمرات بشكل أكثر زراعية. لقد كانت هناك لتدعم، وليس لتنافس النظام الصناعى الأوروبى، عن طريق الامداد بالمواد الغذائية والمواد الخام وتوفير أسواق للسلع المصنعة "

** ** **

" لقد تعرضنا للاضطهاد على نحو شديد، وواجهنا الاستغلال على نحو شديد، وتم تجاهلنا على نحو شديد "
مواطن أفريقي
** ** **
لم تقتصر المساهمات الأفريقية فى الرخاء والنهضة الأوروبية عند هذا الحد، فكما أوضحت سابقًا، كان العبيد الأفارقة هم الوقود الذى أشعل أفران الثورة الصناعية البريطانية التى كانت بدورها الدافع الأوحد للعودة الى القارة مرة أخرى ولكن لأجل ثرواتها الطبيعية هذه المرة. إنتهت تجارة العبيد بشكل نهائى حوالى عام 1865 وهذا يعنى أنها استمرت 350 عامًا تقريبًا ولم تكد تمر 20 عامًا حتى بدأت الموجة الثانية من الاستعمار الأوروبى للقارة السمراء، تلك الموجة التى غطت النصف الثانى من القرن 19 وحوالى النصف الأول من القرن 20 وتميز الاستعمار هذه المرة بانه استعمار سكنى، يختلف عن موجة الاستعمار الأولى التى كانت ساحلية جدًا، مدارية جدًا، وتهدف الى الاستغلال التجارى الأقصى فقط.
وكان مؤتمر برلين الذى دعا اليه " Bismarck " مستشار الرايخ الألمانى فى عام ( 1884 ) لمناقشة أزمة الكونغو، وإمكانية وضع قوانين دولية لتنظم الملاحة والتجارة فى أفريقيا الغربية هو إشارة البدء بسباق جنونى مسعور على القارة.. هذا هو التكالب المشهور ( Scramble for Africa ).
وقد افتتح مؤتمر برلين أعماله فى 15 نوفمبر 1884، واشتركت فيه ألمانيا وانجلترا وفرنسا والنمسا والمجر وبلجيكا والدانمارك وإيطاليا وهولندا والنرويج والسويد والبرتغال وروسيا وأسبانيا وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية. وبدأ هذا المؤتمر فى مناقشة مشكلات القارة الأفريقية، ثم أصدر فى 26 فبراير 1885 قراره النهائى الذى يتألف من 38 مادة، كان من بينها الإقرار بسياسة " الباب المفتوح " فى أفريقيا لجميع الدول المشاركة فى المؤتمر، والإعتراف بولاية الكونغو الحرة وحيادها تحت سيادة ليوبولد الثانى ملك بلجيكا، الى جانب حرية الملاحة فى نهر النيجر كذلك نصت قرارات المؤتمر - فيما نصت عليه من قرارات -، على أن ( تقوم كل دولة بإبلاغ الدول الأخرى عندما يتم لها إمتلاك جزء من الأراضى أو السواحل الأفريقية، من غير أملاكها الراهنة، أو عندما تقوم بتأسيس محمية لها ) وتضمن قرار أخر إعترافًا دوليًا بمبدأ " الإحتلال الفعلى أو مبدأ السلطة الفعلية " وكانت هذه المادة تهدف الى إلزام الدول التى تقوم باحتلال منطقة ما من الأراضى الأفريقية، أن تقيم فيها سلطة فعلية لضمان إستمرار حرية الملاحة والترانزيت.
وجاء الزحف الأوروبى المسعور كاسحًا بصورة لم تعرف فى التاريخ، حتى فى العالم الجديد، ففى غضون عقد واحد من انعقاد مؤتمر برلين كان قد تحدد كل شئ.
ففى عام 1893 كانت كل القارة قد اقتسمت بين القوى الأوروبية وانخفضت نسبت المساحة المستقلة فيها من 95% عام 1885 الى 8% عام 1910 !
هذا بينما فى آسيا لم يصل الإستعمار الى منتهى رقعته الا على مدى فترة طويلة، كما أنه لم يتعد فيها حده الأقصى الا قطاعًا معينًا فى القارة.
أما أفريقيا فانها تنفرد بين القارات الجنوبية بأنها الوحيدة التى خضع أغلبها للاستعمار. وفى وقت لم يكن هناك دولة مستقلة - ولكن شكليًا - الا ليبيريا.
وبهذا كانت أفريقيا هى القارة المستعمرة، أو المستعمرة القارة بالضرورة، كانت أكبر مستعمرة منفردة فى العالم، وأضخم معمل للتجارب الاستعمارية فى التاريخ.
والذى شارك فى هذا التكالب كان دول أوربا البحرية بالذات، لكن مع تخلف واستبعاد بعض القوى القديمة كهولندا والدانمارك ودخول بعض القوى الجديدة كألمانيا وإيطاليا وبلجيكا. وقد كان الصراع فى أفريقيا انعكاسًا للصراع فى أوربا، وتحددت نتائجه بأقدار وأوزان تلك القوى فى قارتها، كما أن هذه النتائج بدورها أكدت تلك الأقدار والأوزان والهيبة، فاما ضاعفتها واما أضعفتها. وفازت القوى الكبرى بنصيب الأسد، وخرجت القوى الصغرى بفتات المائدة.
ولقد كان الحد الأقصى من التوسع هو الهدف المباشر للجميع، يضاف اليه الوصول بقدر الامكان الى الأنهار الرئيسية، وإن أمكن كذلك تحقيق الاتصال الأرضى بين مستعمرات كل قوة. وفى إطار هذا التوجه، بدأ الهجوم على القارة من كل الجهات تقريبًا، وعدا القوة المباشرة كان للمقايضات الاقليمية والمساومات والمبادلات والتفاهمات دورها مثلما كان للعداوات والتحديات والمخالفات والمصادمات.
وبوجه عام كانت الصدامات الأكثر خطرًا هى تلك التى دارت بين القوى الكبرى كبريطانيا وفرنسا وألمانيا، بينما كانت القوى الصغرى تعتمد على نوع من الحماية من بعض القوى الكبرى ( مثل البرتغال بالنسبة الى بريطانيا ) وإما على " تحييد " القوى الكبرى لبعضهما البعض ( مثل بلجيكا بين بريطانيا وألمانيا ).
وقد بدأ التوغل ببريطانيا، وبدأت بريطانيا التوغل من قواعدها الساحلية فى غرب أفريقيا حيث حققت توسعًا " بحريًا " يتمثل فى عدة مستعمرات متوسطة الأحجام ولا تتعمق كثيرًا فى الداخل فضلاً عن أنها منفصلة عن بعضها البعض.
كذلك دخلت ألمانيا باسفينين منفصلين فى توجو والكاميرون. أما فرنسا فقد دخلت من الكوة أو البوابة الحقيقية لغرب أفريقيا وهى ذلك الشريط السفانى المحصور بين الصحراء شمالاً والغابة جنوبًا. وقد قادها ذلك الى الشارع الرئيسى للحركة فى غرب أفريقيا، فاندفعت فيه شرقًا واندفعت منه جنوبًا لتدخل اقليم غانا من الباب الخلفى، ولتملأ الفجوات الأرضية الواسعة بين الأسافين البريطانية والألمانية.
وبهذا أصبح النمط السياسى متداخلاً على التوالى كقطع الموزايكو: " مستعمرة فرنسية فبريطانية، ففرنسية فألمانية، ففرنسية فبريطانية، وهكذا.
وفى شرق أفريقيا بدأت انجلترا بمستعمرة فى كينيا وأوغندا، لم تلبث أن اتصلت بمستعمراتها النيلية فى الشمال. ولم تلبث ألمانيا أن ناظرتها بمستعمرة واسعة فى تنجانيقا، بينما أغلقت بلجيكا جذع القارة من الغرب بمستعمرتها الضخمة فى الكونغو.
والى الجنوب من هذا كانت البرتغال تتوسع من شريطيها الساحليين القديمين لتكون موزمبيق وأنجولا. وفى نفس الوقت كانت بريطانيا بعد أن انتزعت الكاب من هولندا أثناء الحروب النابوليونية - أخطأها البرتغاليون بصورة غريبة أثناء كشفهم للهند - فقد إتخذت منها رأس حربة للاندفاع الى قلب القارة شمالاً على طول العمود الفقرى للمرتفعات والهضاب السافانية. بينما ملأت ألمانيا الفراغ على الساحل الغربيى بين الكاب وأنجولا بجنوب غرب افريقيا.
وهنا حاولت كل من المانيا والبرتغال أن تصل ما بين أراضيها شرقًا وغربًا لتغلق الطريق على التوسع البريطانى: أمانيا ما بين تنجانيقا وجنوب غرب أفريقيا ، والبرتغال ما بين موزمبيق وأنجولا. ولكن كانت اليد العليا لبريطانيا، فنجحت فى أن تتمدد شمالاً عبر الروديسيتين.
وبعد هذا بدأت بريطانيا تتطلع الى حلم ضخم هو طريق ( الكاب - القاهرة ) فى محاولة عظمى لربط مستعمراتها فى أقصى شمال وجنوب القارة على محور طولى هضبى فى الجنوب نيلى فى الشمال.
وقد اصطدم هذا المشروع بمشروع مماثل - ولكنه عرضى - لفرنسا للتوسع على طول محور السافانا عبر السودان الأوسط حتى يصل عبر سودان النيل الى جيبها الصغير فى الصومال الفرنسى على البحر الأحمر.
وكان اللقاء بين الأسد والنمر فى سافانا فاشودة والتى حسمها فى الحقيقة توازن الأساطيل الحربية فى الأطلسى أكثر منه توازن الكتاب المتوغلة فى أفريقيا، فتراجعت فرنسا وتحطم محورها العرضى، ليسود المحور البريطانى الطولى، الا من حلقة فى شرق أفريقيا لم تلبث أن استكملت فى الحرب العالمية الأولى حين آلت تنجانيقا الى بريطانيا التى تقاسمت مع فرنسا مستعمرات ألمانيا المنهزمة.
ولم يبق بعد ذلك الا القرن الأفريقى الذى تتوسطه وتسوده الحبشة التى استطاعت بنوع من المضاربة أن تحتفظ باستقلالها الحرج نتيجة للصراع المثلث بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا هناك. وقد حدث فى الواقع نوع من التكالب يعرف بالتكالب الصغير أو التكالب الثانى، تقاسمت فيه القوى الثلاث الصومالات الثلاثة واريتريا. وحاولت إيطاليا غزو الحبشة ولكنها هزمت فى معركة عدوة، حتى عادت فى ثلاثينيات القرن 20، فسقط أخر معقل مستقل فى أفريقيا. إلا أن هزيمة إيطاليا الأولى لم تنس قط، وكانت صفعة لادعائتها الامبراطورية ولهيبتها فى ميدان القوة، إذ أنها كانت أول قوة أوروبية تهزم فى العصر الحديث على يد قوة غير أوروبية، وتسبق فى هذا هزيمة روسيا القيصرية على يد اليابان.
وإذا نحن الأن حللنا المحصلة النهائية للصراع كما أخذت شكلها النهائى بعد الحرب العالمية الأولى، فسنجد أن بريطانيا هى التى خرجت بنصيب الأسد مسيطرة على نحو 45% من القارة وموزعة فى وحدات كلها من أغنى مناطق أفريقيا طبيعيًا وتعدينيًا. إنها الإمبراطورية الثالثة لبريطانيا بعد أمريكا سابقًا والهند لاحقًا. ثم تلى فرنسا بنحو 21% من السكان فى مساحة مترامية، لكن رقعة ضخمة جدًا منها صحارى وأشباه صحارى. هذان اذن هما " الاستعمار الكبير"، ينتشر فى كل أركان القارة، وفى أغلب أقاليمها الطبيعية، فى النصف الشمالى والجنوبى، شرقًا وغربًا على السواء.
أما " الاستعمار الصغير " - وهو محلى التوزيع كقاعدة - فتمثله إيطاليا التى خرجت بصندوق من الرمال فى الأعم الأغلب، داخلى بقدر ما هو ساحلى، ويطل على البحرين الأحمر والمتوسط، ويتألف من 4 وحدات تلتئم فى كتلتين منفصلتين. وتأتى البرتغال بوحدتين كبيرتين واسفينيين قزميين. ولكن إذا كان الاستعمار الإيطالى هو أحدث استعمار فى القارة فإن الاستعمار البرتغالى هو أقدمها ( 5 قرون ). وإذا كانت مستعمرات إيطاليا لفقرها أعجز من أن تتلقى الاستعمار، فإن البرتغال على العكس كانت قوة أعجز من تتحمل أو تستثمر مستعمراتها. ومن الناحية الأخرى فإن امبراطورية أسبانيا فى أفريقيا لا تخرج عن امبراطورية جيوب وأسافين هزيلة فقيرة مشتتة ما بين المغرب وخليج بيافرا.
ولا يبقى بعد ذلك الا دول المستعمرة الواحدة. منها بلجيكا التى لم تملك فى العالم الى الكونغو، لكن الكونغو قد تكون أغنى مستعمرة فى أفريقيا اقتصاديًا ( يقرر المؤرخون أن الملك ليبولد الثانى ملك بجيكا قد جمع من الكونغو منذ بدء استعمارها وحتى 1906 حوالى 20 مليون دولار من تجارة المطاط والعاج، ويقدر البلجيكيون أن حجم رأس المال الأجنبى الذى تدفق الى الكونغو فيما بين عامى 1887 : 1953 قد بلغ 5700 مليون دولار، كما أن الأموال التى تم نزحها الى الخارج خلال الفترة ذاتها قد وصلت الى 4300 مليون دولار، هذا بالاضافة الى الأرباح التى تم الاحتفاظ بها داخل الكونغو! )
وكانت الكونغو تبلغ 50 مرة مساحة بلجيكا!
ثم هناك الولايات المتحدة مع ليبيريا، وكالمألوف مع الولايات ليس هذا استعمارًا رسمياً بل علاقة مثل عليا وفروسية سياسية، ترجع الى محاولة توطين الرقيق الأمريكى المحرر العائد، وتترجم فى الواقع الى استعمار غير رسمى كما يعترف الكتاب الأمريكيون أنفسهم.
يتبع..

الاثنين، ٢١ يوليو ٢٠٠٨

الإمبريالية كرسالة أخلاقية.. انجلترا نموذجًا... 1

" ( السلام البريطانى ) دائمًا مغالطة وقحة، أصبحت وحشًا بشعًا من الرياء "

John A. Hobson

** ** **
" إنى أؤمن بهذا العرق، أعظم عرق حاكم عرفه العالم.. أؤمن بالجنس الأنجلو ساكسونى، الفخور، المتماسك، الواثق بنفسه، وصاحب العزيمة، هذا العرق الذى لا المناخ ولا التغيير يمكنهما أن يجعلاه ينحط، والذى سوف يكون – بلا جدال – القوة السائدة فى مستقبل التاريخ والحضارة العالمية "


يخدم هذا المقال غايتين أساسيتين:
1 - التعريف ب " كيف نظر الغربيون - البريطانيون تحديدًا - الى أنفسهم فى فترة النهضة بعد فترة تشكيل الهوية التى أوضحناها فى مقال سابق.
2 - كيف تعامل الغربيون مع الأخرين بناءًا على نظرتهم لأنفسهم وللعالم.

** ** **

عنوان جانبى هام جدًا: لماذا يكرهوننا؟!
ويستتبعه تعريف ضرورى لأوضاع (
العالم البريطانى فى القرن 19 البريطانى أيضًا )

** ** **

"
Is god British "

** ** **

ودع القرن 19 فترة مراهقته، وقد اجتمع انقلابان خطيران:
أولاً: انتقال السيادة العالمية نهائيًا الى بريطانيا بعد أن أزاحت فرنسا الى الأبد عن الصدارة.
ثانيًا: بدء الانقلاب الصناعى فى بريطانيا، وهو الأمر الذى أكد زعامتها فى العالم بدون منافس حقيقى. ومنذ ذلك ولمدة قرنٍ تقريبًا ظلت القوة السياسية والمادية فى العالم احتكارًا لبريطانيا، وكان القرن 19 بحق قرن السيادة البريطانية - قرن بريطانيا.
ورغم أن فرنسا ظلت تناوئها وتتصدى لها، فلم يكن هذا الا من موضع اليد السفلى، الى أن اضطرت بعد قرنٍ كامل أن تعترف بالأمر الواقع لتسوى خلافاتها معها فى الاتفاق الودى عام 1904، ولتتحول فى النهاية الى شريك ثان لها وحليف، أو - بالأحرى - الى صديق لدود، لاسيما بعد ظهور منافس خطير يهدد الاثنين ولكن فرنسا بصفة مباشرة، ونعنى به ألمانيا.
هنالك انطلقت بريطانيا تتفجر وتتواثب، بل وتعربد حول العالم لتستكمل أضخم وأوسع امبراطورية بحرية عرفها التاريخ.
ففى قمة توسعها وصلت الامبراطورية الى أن تغطى ربع مساحة اليابس، وأن تحكم ثلث سكانه، أو نحو 14 مليون ميل مربع، 1000 مليون نسمة على الترتيب.
وأبرز حقيقة على هذه الامبراطورية الماموث هى بلاشك تبعثرها فى ( جزر سياسية ) منفصلة متقطعة تفصلها آلاف الأميال من البحار والمحيطات، ولا يكاد محيطها يقل - عمليًا - عن محيط الكرة الأرضية.
ومن هنا فقد كانت امبراطورية عالمية بكل معنى الكلمة. لها أعضاء تمثلها فى كل قارة بما فى ذلك أوروبا نفسها، وتكاد تترامى عبر كل خطوط الطول والعرض فى العالم ( 320 درجة طولية × 130 درجة عرضية )، وتمتد بلا استثناء فى كل المناطق المناخية، والأنواع النباتية والبيئات الطبيعية والأقاليم والأنماط الجغرافية، كما انتظمت تقريبًا كل الأجناس الرئيسية والديانات والى حد ما اللغات. باختصار كانت متحفًا منثورًا لعينات من الكرة الأرضية والعائلة البشرية ( لا تغيب عنه الشمس ).
ومثل هذه الإمبراطورية الدائرية المترامية كانت بطبيعة الحال - ولم يكن لها بد من أن تكون - امبراطورية بحر فى الدرجة الأولى، بل الحقيقة أنها كانت بالضرورة نتج السفينة البخارية، وامبراطورية عصر البخار، بغيرها ما كان يمكن أن تقوم وإذا قامت فبغيرها ما كان يمكن أن تستمر. ولهذا كانت خطوط الملاحة هى شرايين الامبراطورية وخطوط الحياة بالنسبة لها. وكان الهيكل الذى يمسك بهذه المستعمرات المبثوثة يتألف من 5 خطوط تسمى ( أحزمة الإمبراطورية - Girders of Empire ) أهمها بلا شك طريق السويس البحرى الداخلى الذى يشق قلب الإمبراطورية الفعال، ثم طريق الرأس الدائرى البديل، والى الغرب تنبعث الخطوط الثلاثة الأخرى، وأولها خط كندا والولايات المتحدة ولم يكن يقل أهمية عن خط السويس، والطريق التالى هو طريق (بنما - هاواى - استراليا ونيوزيلندا) أما الطريق الأخير فطريق جزر فوكلند بحذاء جنوب شرق أمريكا الجنوبية.
وعلى هذه الشبكة الأخطبوطية ترتكز الامبراطورية على مجموعة من القواعد العسكرية الاستراتيجية التى تمثل نقط أو عقد القوة الاستراتيجية فيها، والتى تعتمد أساسًا على الضبط والاستعمار الساحلى. ومع مقدم عصر الطيران ازدوجت هذه الشبكة فى الواقع بشبكة جوية مركبة فوقها، كما تكملها فى بعض حلقاتها شبكة طرق وسكك حديدية على القارات.
فى هذا الإطار اكتملت سيادة بريطانيا البحرية الى درجة الاحتكار المطلق للقوة البحرية فى العالم، وأصبحت عملية مراقبة البحار العليا والإشراف وظيفة بريطانية بحتة، وتحققت بهذا بوحدة المحيط العالمى كأقوى ما يكون، ولا نقول أصبح المحيط العالمى أصبح بحيرة بريطانية! ولقرنٍ بأكمله لم تستطع قوة ما أن تتحداها.
غير أن هذا كان فى الواقع دوراً بوليسيًا لا شك فيه، وفى هذا المعنى وحده ينبغى أن نفهم معنى ( السلام البريطانى / Pax Britannica) الذى فرضته طوال ذلك القرن وظلت تفخر به طويلاً، وتضليلا..
وفى ظل هذه الاستراتيجة البحرية المدرعة استطاعات بريطانيا أن تصبح تاجر العالم الأول مثلما جعلها الانقلاب الصناعى مصنعه الأول. ففى اقتصاديات آسيا وأفريقيا كان لها الدور الاحتكارى المطلق، بينما كانت هى وحدها المسيطر الرئيسى على الاستثمارات والتمويل فى أمريكا الجنوبية. وفى النتيجة أصبحت بريطانيا تستمد من هذا الدور الجزء الأكبر من قوتها وثرائها المادى بدرجة تتضائل بجانبها كثيرًا مواردها وإمكانياتها الذاتية البحتة.
ولم يكن لذلك غريبًا أن تضاعف سكانها 4 مرات خلال ذلك القرن رغم الملايين التى أرسلت الى ما وراء البحار خاصة الى أمريكا. وفى حمى هذه القوة العسكرية المطلقة والرخاء الاقتصادى النادر لم يكن غريبًا - أليس كذلك؟ - أن يصل الصلف والغرور الانجليزى الى منتهاه، وأن يظن الاستعمار البريطانى أن الأرض قد دانت له، وأن يتصور نفسه مركز الكون بل لقد تساءل بعضهم أيامها بالفعل - كذا - عما اذا كان (الله هو بريطانيا - Is god British )، لقد وصل بهم غرور القوة وعبادة الذات، ودعك من واجهة التهكم الى حد الكفر!
بيد أن المهم أن بريطانيا انما بنت دورها هذا على أساس نظريات ومدارس معينة تبنتها أو خلقتها حرية التجارة أولاً وتخصص الانتاج ثانيًا. ولو أن المبدأين جانبان فى الحقيقة لشئ واحد على أن الذى لم يعد فيه شك الأن هو أن تلك المبادئ أبعد شئ عن الحقيقة، بل قلب صارخ للحقيقة هى. فحرية التجارة كانت دعوة تتخفى حولها أعتى أنواع الاحتكار القائم على القوة العسكرية وهى كما قال بسمارك ( سياسة الأقوى).
أما التخصص فوسيلة لحرمان المستعمرات من التطور وللابقاء على تخلفها الى الأبد بحجة الجغرافيا الطبيعية.
والنتيجة أن اقتصاد بريطانيا كان فى جوهره اقتصاد حرب، واقتصاد قوة، وبغير الأسطول ودبلوماسية الزوارق المسلحة، كان من المستحيل أن تظهر ( مدرسة مانشستر فى التجارة الحرة )، وكان السلام البريطانى المزعوم سلام قوة، يقوم على الظلم والقهر ويعتمد على التهديد بالحرب، ومن هذه الحقيقة بالذات ستنبعث جرثومة الحرب العالمية الأولى.
** ** **
" فى يوم من الأيام سوف تزدهر تركيا والصين وبقية العالم إلا أن هذه الدول لن تبدأ فى التقدم حتى تنعم لابحقوق الانسان، وهذه لن يتم الحصول عليها إلا عن طريق الفتح الأوروبي "

Winwood Reade
** ** **

لا يمكننى تخيل - ولا أعتقد أنه من التعقل - الإعتقاد بأن الظاهرة الاستعمارية التى سادت العالم لأربع قرون كان سببها - فقط - ضغط جماعات المصالح الامبريالية أمثال شركات الهند الشرقية الانجليزية والهولندية والفرنسية والشركة الملكية لأفريقيا ولا حتى شخصيات استعمارية عتيدة أمثال: "Cecil Rhodes"، فالعقيدة واستمرار تدفق معانيها هى ركن اساسى فى استمرار نجاح الفكرة اذا ما صاحبتها القوة اللازمة للتنفي، وقد كانت القوة متوفرة.. متوفرة جدًا.
مرت العقيدة الاستعمارية الأوروبية بمرحلتين:
1- المرحلة الصليبية:
وتظهر جلية فى فترتها الأولى.. فترة خروج البرتغال ومن بعدها - أو فى نفس توقيتها تقريبًا - أسبانيا وسيظهر هذا جليًا جدًا فى يوميات رحلة كريستوفر كولومبوس الى أمريكا أو فى القراءة الطقوسية الاسبانية لأمر الفاتحين، والذى اعتبر انذارًا للهنود الحمر للاعتراف بتفوق المسيحية أو اعلان الحرب عليهم، ويذكر الجزء الأساسى فى النص:
" باسم صاحب الجلالة...... أنا......... خادمه ورسوله........ أتوسل اليكم وأطلب منكم بأفضل ما يمكننى ....... (أن) تعترفوا بالكنيسة بصفتها السيد والأعلى فى العالم الكونى..... اذا فعلتم ذلك سيستقبلكم جلالته وأنا باسمه..... أما اذا لم تفعلوا.... فانى بمعونة الله، سوف أدخل (البلاد) بقوة ضدكم، وسوف أشن الحرب عليكم فى كل مكان ..... سوف أخضعكم لعبودية الكنيسة وطاعتها.... سوف آخذ زوجاتكم وأطفالكم وأحولهم الى عبيد..... كما أنى سألحق بكم كل شر أو أذى قد يوقعه سيد بخدمه حينما لا يطيعون أو لا يستقبلونه "
إن هذا بالطبع يناقض ادعاءات منظرى مركزية أوروبا الذين يحلوا لهم أن يردوا خروج البرتغاليين و الأسبان الى الاستكشاف، يحلوا لهم أن يردوها الى حيوية وتطلع غير عادى فى شعوب غرب أوروبا، والى حب استطلاع ومغامرة وتفوق طبيعى فى الجنس. هم - بمعنى أخر - يثيرون تفسيرًا عنصريًا.
وتبدو العقلية الصليبية الدينية واضحة جدًا من أن خروج كولومبوس فى العام 1492 - عام سقوط الأندلس - كان بهدف جلب الذهب لملكى أسبانيا " فرديناند وايزابيلا " من أجل تجهيز الجيوش لاستعادة الأرض المقدسة، وقد تدخلت الكنيسة فيما بعد لتنسيق السيادة بين أسبانيا والبرتغال على الأراضى المكتشفة حديثًا، فنالت أسبانيا - بعد تحكيم البابوية فى ( معاهدة تورديسيلاس - Treaty of Tordesillas ) - كل ما يكشف فى نصف الكرة الغربى، والبرتغال كل ما يكشف فى نصفها الشرقى!.. وقد جعل خط هذه المعاهدة شرق أمريكا الجنوبية - البرازيل تحديدًا من نصيب البرتغال، بينما أصبحت بقية جسم أمريكا الجنوبية والوسطى امبراطورية قارية أسبانية ضخمة، ولو أن البرتغال تخطت الخط كثيرًا نحو الغرب بعد ذلك.
وتكمن نقطة التحول المباشر فيما يتعلق بتلك الرحلات - الرحلات البرتغالية الاستعمارية الأولى - فى استيلاء العثمانيين على القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية عام 1453، وهو ما أحدث أزمة كبرى فى العالم المسيحى. وقد تفاقمت أزمة الهوية المسيحية هذه باستيلاء المسلمين على أثينا ( مدينة مفكرى عصر النهضة المقدسة ) عام 1456. وهكذا تصاعد كورس عظيم من النواح:

- " لقد تدنست أرض الإغريق المقدسة ".
وحث " التهديد الإسلامى " مقترنًا بانشقاق وحدة المملكة المسيحية، الكنيسة الكاثوليكية على إصدار عدد من المراسيم البابوية، لأنه بالنسبة للكنيسة كان الأمر يماثل الى حد كبير مسألة حياة أو موت بالمعنى الدينى، مما يعنى أن بقاء المسيحية ذاته كان فى خطر.
فكما أعلن البابا "بيوس الثانى ":
- " إن حربًا لا يمكن تجنبها مع الأتراك تهددنا، وإذا لم نحمل السلاح ونذهب الى الحرب لملاقاة العدو فإننا نعتقد أن فى هذا نهاية الدين "
إن المرسوم البابوى الأول الذى أصدره البابا " نيكولاس الأول " عام 1452 - حتى قبل خروج المسلمين نهائيًا من الأندلس - أكد على أن " البابا يفوض ملك البرتغال فى الهجوم والاستيلاء وإخضاع ( الساراكين ) وهم العرب والمسلمين بشكل رئيسى، إن لم يكن بشكل كلى.... الاستيلاء على خيراتهم وأراضيهم، وأكراه أشخاصهم على العبودية الأبدية وتحويل أراضيهم وممتلكاتهم الى ملك البرتغال ".
وقد أعقب ذلك مرسوم ثان أصدره نفس البابا - نيكولاس الثانى - عام 1455، والذى أطلق عليه بحق " دستور الإمبريالية البرتغالية "، وفيه تم الثناء بشدة على " الأمير هنرى الملاح " باعتباره جندى المسيح والمدافع الأول عن الدين. لقد امتدح لرغبته فى نشر اسم المسيح وأخضاع " غير المسيحيين " للدخول فى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية. كما وُثق به بصفة خاصة لعزمه الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح والإتصال بسكان الهند " الكاثوليك " - كان الإعتقاد الأوربى الشعبى السائد وقتها هكذا، ولا أعرف من أي مكان جاؤوا بتلك ( المعلومة / الأمنية ) الخرافية - حيث يقال أن الملك القس " برستر جون " يحكمهم، وكان الإعتقاد أن هؤلاء السكان " يجلون إسم المسيح " وأنه بإقامة تحالف معهم يستطيع البرتغاليون أن يواصلوا القتال ضد الساراكين وغيرهم من " غير المسيحيين".
وبعد أن مُنحت الإمبريالية شرعية فى الهند، تبع ذلك صدور مرسوم بابوى إضافى - وهو ضمن مراسيم أخرى - فى 1456 وقد دعم ذلك مرسوم باباوى رومانى بمنح " سلطة روحية على كل المناطق التى يخضعها البرتغاليون سواء الآن أو فى المستقبل، من رأس بوجادور - على الشاطئ الشمالى الغربى لأفريقيا - وثان على طريق غينيا وما ورائها جنوبًا نحو الهند.
وقد تم توجيههم بصفة خاصة للعثورعلى " برستر جون " الذى كان يعتقد أنه بالتحالف معه يمكن للبرتغاليين هزيمة المسلمين، ومما هو جدير بالذكر ومثير للسخرية أيضًا أنه كان يتم البحث عن " برستر جون " للإعتقاد فى أنه يعيش فى كنف الإمبراطورية الإسلامية!

وكان التصريح الجرئ الذى أعلنته الكنيسة بأن المحيط الهندى " لم يكن تحت سيطرة دين ما " - والذى كان الى حد ما المعادل للمفهوم المسيحى فى القرون الوسطى، السابق لمفهوم " الأرض التى لا تخضع لسيادة أحد عليها " قد إنعكس فيما تردد من أن هذا المحيط خالٍ أو حر بمعنى أنه لا سيادة لأحد عليه.
وقد أدى هذا بالبرتغاليين - فيما بعد - الى الاعتقاد أنه من الملائم تمامًا أن تحمل كل السفن الآسيوية التى ترغب فى التجارة فيما يعتقد الأن أنه " المحيط البرتغالى" تصاريح برتغالية.
بمعنى أخر، لم يتم استحضار المسيحية كمبدأ تبريرى للإمبريالية البرتغالية فى الهند فحسب، وإنما شكلت معتقداتها - منذ البداية - أساسًا يرتقى عليه هذا النوع من الأعمال ليصبح مناسبًا أخلاقيًا. ولا يعنى أى من هذا أن الدوافع الإقتصادية لم تكن مهمة. إلا أن الثروات الإقتصادية سوف تكون وسيلة مهمة لشن الحرب على " غير المؤمنين ".
ومن الجدير بالذكر فى هذا السياق، أنه فى عام 1457 أصدرت دار سك العملة فى لشبونة عملة ذهبية عليها ختم
الصليب، وليس بأقل أهمية هنا الإشارة الى أن الذهب قد أتى من غينيا!
** ** **
يتبع..
_______________________________
ستذكر المصادر فى نهاية المقال باذن الله




الأحد، ٢٠ يوليو ٢٠٠٨

Trailer



قد يكون قديمًا..
لكن موسيقاه - جزئها الأخير تحديدًا - ما تزال تبعث في أرجائي قشعريرة المتعة ولسعتها.

الاثنين، ١٤ يوليو ٢٠٠٨

قمة عقيمة أخري لعظماء المال والسلاح تقرر حكومة عالمية لإدارة الكوارث وليس لعلاجها

الحالة الكونية سوف تتقدم حتي علي ما يسمي بالسياسة الدولية. هناك حاكميات جديدة تعلو ما فوق قطائع السياسات لجملة الدول كما لمفرداتها. فليس الأمر لمن هو الأقوي أو الأضعف. أمست جميع أمم العالم في مرتبة الضعف الشامل إزاء نوع التهديدات الوجودية الخارجة عن إرادتها، والتي تتجاوزها جميعها، وتضعها في سلة واحدة من معاناة العجز تحت وطأة امتناع الحلول لمشكلات لا تقع تحت رقابة الوعي أو التدبر العقلاني.
فان ثقافة الإستراتيجيات استنفدها الصراع العقيم علي أحاديات التسلط والنفوذ لتلك الدولة أو سواها حتي يبدو أن زمن الساسة المحترفين قد ولي منذ أن قبل زعماء العالم بالتبعية للقادة العسكريين، تم انتقلوا إلي مرحلة التحالف مع جبابرة المال، وقبلوا أخيراً وظيفة السمسرة لصفقاتهم، في مرحلة تالية علي عصر الايديولوجيات وحروبها الهمجية المطلقة. وها هم اليوم يدورون في حلقة مفرغة إلا من حجم الكارثة المطلقة التي أمست تشغل مركزها وحدها، كأنما فقدت حضارة العصر كل رقابة ممكنة علي أمراضها المزمنة.
زعماء العالم مدعوون قسراً عنهم إلي تشكيل (الحكومة العالمية). لكن أحداً منهم لا يجرؤ علي تحمل المسؤولية. فهم المذنبون أولاً بارتكاب كل الأسباب المؤدية الي حال العالم الراهنة الموصوفة بكل نعوت الأخطار الشمولية. فقد خضعت استراتيجيات الدول العظمي إلي هذه العاهة الفلسفية، وهي التوافق علي مجهولية الأسباب الحقيقية لتفاقم الأزمات العامة منذ أن أمكن حصُرها في قطاع الدول الفقيرة عصراً طويلاً، لكنها في حصارها الغبي ذاك تكاثفت عواملها حتي شَكلت ما يشبه القنبلة النووية المهدِّدة بانفجار يخترق كل الحصون الفاصلة بين عوالم غنية متقدمة وأخري فقيرة متخلفة. غير أن أعضاء الحكومة العالمية غير المعلنة الملتقين في القمة اليابانية، لا يزالون متمسكين بخرائط العالم القديم. فليس في جعبتهم إلا تلك العلاجات المسكّنة لأمراض تخطت تشخيصاتها المستهلكة. وتحولت إلي ما يشبه الأوبئة العابرة للقارات. ذلك أنه من طبيعة كل كارثة إقليمية في عصر العولمة، أنها تتطور الي نوع الكارثة الوبائية. فالعولمة لا ترفع الحدود أمام الاستثمارات فقط، إنها ناقلة وحاملة معها لجراثيم المفاسد الي كل مكان. ليست الأخلاقية، بل التكوينية، أي من سلالة تلك الأعطال التي تدفع أثمانها أمم كاملة، بل إنسانية عصر ما. فيبدو أن العصر الراهن هو الآتي بالذروة التي تتلاقي عندها النهايات العظمي لهذه الأعطال، والتي صار يعبر عنها بالأخطار الكاسحة لكلا الأمنين معاً الإقتصادي المعيشي لغالبية سكان الأرض من جهة، والحيوي البيئي للأرض نفسها، لتربتها وفضائها، ولكل حياة ما بينهما.
حديث هذين الأمنين لم يعد ترفاً ثقافوياً. وربما لا يغطي أحدهما الآخر بقدر ما يفاقم كل منهما من عوامل الآخر. وفرض مظاهره وتبعاتها المخيفة، مع مضاعفة الحاجة الماسة الي المواجهة العاجلة لأخطارهما، علي أن تتعدي هذه المواجهة دوائر الخبراء ونشاطات المؤتمرات والندوات، حتي لقاءات القمم الدولية السياسية. إنها من فعالية المجتمع الدولي الآخر، أي غالبية المعمورة المحجوبة حتي الآن وراء يافطات أنظمتها الحاكمة وديكتاتورية الإعلام الرسمي المقنن لانفراجات الحقائق والمعلومات، والمحتكر لصناعة الخبر وفبركة الرأي والتحليل. فليس من صدف التاريخ أن يقترن أخطار هذين الأمنين، مع انهيار النسبة المروعة لحجم الديمقراطية في عالم اليوم، وخاصة في تلك الدول التي تدعي أنها مواطن الحريات وحقوق الانسان. فخلال حقبة الأمبطرة البوشية وحدها، تساقطت تدريجياً وبسرعة مناعات دولة القانون والمجتمع المفتوح: وتعاظمت سلطة (الأمن الأمني) الخالص، بعد لم تعد تسوّغه إلا حيثيات إكراهاته عينها. صار مألوفاً في أمريكا، ومن بعدها في أوروبا، تقبل التشريعات المنتقضة (قانونياً) لحريات المواطنين وأمنهم الذاتي، مع هذه الهرولة الجماعية سريعاً نحو الدولة البوليسية أو الفاشية. انه التعامي المقصود عن مواجهة (أسباب) الارهاب الديني، الذي عجل بتنمية نشاطاته حتي أمكن تضخيم حجمه الي مستوي العدو الأكبر لمدنية الغرب. وهو عينه التعامي الأخطر الهادف إلي التغطية علي ظاهرة الانفجار المزدوج للأمنين البيئي والاقتصادي في وساعة دنيا العولمة المعاصرة.
هنالك بعض أصوات سياسية وعلمية حرة، لكنها نادرة، تتحدث بعبارات صريحة أنه لم يعد يمكن التعامل مع شمولية الكارثة الكونية إلا من خلال إعادة النظر في نظام الإنتاج والاستهلاك. فهو ذلك النظام القديم الناشئ منذ قرنين يوم كان سكان العالم لا يتجاوز عديدهم المليار الواحد. فكان يمكن لأمنا الأرض أن تتحمل عوامل السلب والنهب لثرواتها الطبيعية، والمزيد من تلويث بيئتها الحيوية، من أجل أن تطعم أقلية لا تشبع أبداً مقابل غالبية الفقر المدقع أو نسبياته من هذا المليار من السكان الذي تقفز أرقامه بمعدلات هندسية متضاعفة، يصاحبها إيقاع الحروب الاستعمارية والعالمية القاضية علي الملايين (الزائدة)، كما كان هو التسويغ الأخلاقي جداً الذي يردده أرباب هذا النظام. ولكن مع وصول عديد البشر إلي ما يناهز السبعة مليارات، والسائرة سريعاً نحو العشرة وما يتجاوزها، فليس ثمة نظام في الانتاج والاستهلاك، هو في أصله من صنع البشر، يمكنه أن يظل هو عينه، في حين أن البشر، أسياده وعبيده معاً، يعتريهم كل هذا التغيير الهائل في حجميْه الكمي والنوعي. ومع ذلك فلا يبدو أن هؤلاء البشر، أو (صنف) الأسياد منهم، سوف يستجيبون لحتمية التغيير. هنا تنبري الطبيعة وحدها لتتولي عن البشر والتاريخ العاجزين معاً، مهمة الضربة القاضية. إنها تشهر أمام الجميع سلاحها الأقوي الأمضي من كل سلاح أو دفاع، بشري أو تاريخي، والمتمثل في وحدة الخطر الأعظم لكل من الأمنين الغذائي والبيئي.
(حكومة العالم)، السائدة علي العالم بقوة الأمر الواقع، هي السلطة الافتراضية العليا التي تنتدب نفسها لخلاص الإنسانية في اللحظة الحرجة. ولكن عليها قبل كل شيء أن تحسم أمرها بين الخيارين التقليديين، فاما أنها (تحلّ) الأزمة أو (تديرها)، زعماء الدول الثماني الأغني والأقوي ليسوا من خانة الرجال المختارين أو المصطفين، ليس بمقدورهم، وخلال اجتماعهم الياباني الأخير، الانتقالُ دفعة واحدة من صف المدراء علي المشكلات الكبري، الي صف الاصلاحيين العاملين فعلاً وليس قولاً وتصريحاً، علي انقشاع الأوهام التقليدية الفاصلة دائماً بين الأسباب الحقيقية لكل إشكالية وبين نتائجها الكارثية المسيطرة اليوم علي مقدمة المسرح الدولي، وخلفيته معاً. كأنما أصبح الجهد السياسي للدول العظمي مجرد مناورات دبلوماسية للتمويه علي حقائق التطورات العالمية. فحين تقر قمة اليابان مبدأ خفض انبعاث الغازات الصناعية الي مستوي النصف حتي عام 2050 دون تحديد أجندة واضحة لكيفية التنفيذ ودون رقابة دولية جدية، فانها تعتبر مثل هذا الاتفاق أشبه بالانتصار الأكبر، لأن القمة استطاعت أن تفوز بموافقة أمريكا الممتنعة منذ أول مؤتمرات البيئة علي مشاركتها الجديدة في التدابير العالمية لمكافحة التلوث، لكن دونما أية ضمانات موضوعية للتحقيق وآليته.
إذا كانت المواجهة الكلية مع الأمنين الغذائي والبيئي قدراً كونياً سارياً مفعوله الكارثي علي الجميع، إلا أن بعض الغرب المتأمرك لا يزال يعتقد أنه قادر علي استثناء ذاته من تبعة أهواله، وبالتالي من المساعدة الجدية علي كف شروره. بل ربما عمل علي أن يكون ذلك هو المصير المحتوم للـ(آخر)، ومن دونه هو اليوم وغداً..
مع ذلك ربما يتميز القرن الواحد والعشرون وفي بداياته المتلاحقة راهنياً، بأنه يشبه ذلك الزمن الأخير الذي تتراكم فيه كل مشكلات التاريخ الانساني، وخاصة منها المستعصية علي حلول العهود السابقة. فالوضع الكوني ليس محصلة تركيبية عليا للعوامل الايجابية الآتية مع انجازات التقدم، بقدر ما هي محصلة عليا، لكنها مختلة التركيب عضوياً وبشرياً، فقد بات علي إنسان العصر ألا يدفع تكاليف تقدمه المفرط الحالي فحسب، بل ومعها معظم تكاليف ماضي التقدم التي أجلت استحقاقها الأجيالُ السابقة، ورمتها علي عاتق إنسانية القرن الواحد والعشرين هذا الذي صار عليه أن يواجه النهايات العظمي لكل شيء، وإلا واجه هو نهايته المطلقة.
ظاهرة مؤتمرات القمة المتسارعة علي الصعيد الدولي قد تبشر بولادة نوع من التحسس الجماعي بفداحة الاستحقاقات السوداء الكبري التي تنتظر الجميع، بالرغم من كل الفروقات التقليدية التي تقسم المعمورة بين أغنيائها وفقرائها. ففي أسبوع واحد انعقدت ثلاث قمم دولية، حاولت كلها إدعاء التصدي لهموم إنسانية العصر. لكن بالطبع كانت قمة الثماني الكبار في اليابان هي المعتادة علي ترشيح نفسها كحكومة للعالم، فهي المتمتعة بسلطة القرارات ذات الصفة المصيرية، سواء قبلت بها دول المعمورة قاطبة أو رفضتها. انها المالكة لتلك القوي الرئيسية الممسكة بخارطة التوازنات في كل شأن جماعي، وتحت طائلة ما تعتبره هي أولاً عاملاً ضامناً لاستقرار السلام العالمي. فكل هذه المعايير المطلقة تخول أصحابها احتكار مقاييس الخطأ والصواب، لكنها فيما بين رموزها القيادية، تسمح لذاتها بارتكابات كل المعصيات ما دامت قادرة علي فرضها والدفاع عنها.
المضاربات المالية بالأرقام الفلكية المنصبة كلها علي التلاعب بعقود الطاقة والغذاء إنما تجري جميعها في بورصات هذه الدول (العظمي)، وتمارسها الشخصيات المعنوية لشركاتها المتعددة الجنسية. فهي في الحقيقة الآمرة الناهية في كل ما يتعلق بأحوال مليارات الأنفس من سكان هذه المدنية، من أعلي اهراماتها إلي أخفض قواعدها. وبالتالي فليس هو (المجهول) الذي يعبث بحياة الناس ويتلاعب بأرزاقهم اليومية. وعندما يجتمع قادتهم السياسيون تحت طائلة تلافي الأزمات الكونية المستعصية، فهم يعلمون حق العلم من هم صُنّاع الأقفال المغلقة، وأين يخفون مفاتيحها السرية. لكن من هم الساسة، القادة العظماء حقاً الذين يمكنهم ألا يكونوا مجرد شركاء موضوعيين أو سماسرة عند أباطرة المال في أوطانهم وسواها، فالسياسة الوطنية أو الدولية أمست في عصر الرأسمالية المتوحشة، صنفاً من المناورات الاقتصادية، المتعاملة بغير أسمائها الأصلية.
المثقفون الواعون في الغرب يعتقدون انه لا مفر من قيام تلك السلطة الشاملة التي يمكن أن تجسد حلم الحكومة العالمية شرط التغلب بدئياً علي علة المركزية الغربية التي يحاول دعاة العولمة تجديد خطابها الفكري حسب منطق التفرقة العنصرية بين حضارة الديمقراطية و(بدائية) أعدائها. وعلي هذا تصبح كل عاهات العصر لها ما يبررها، اذا ما حوصرت في مساحة القطاع الآخر من هذه الخارطة الجيوأنطولوجية الجديدة. إنها عاهات كبري حقاً، لكن الغرب ليس مسؤولاً عنها ولن يعطي علاجات حاسمة لها بل أن التجويع في الغذاء والطاقة، وتسميم البيئة هي خصائص (العالم الثالث) الذي ينبغي أن تتحول إلي خانته بقية العالم، ما عدا الغرب طبعاً الذي سينعم وحده بكوكب آخر من نظافة اللون والجو، تسوده ثقافة الرفاهية باهظة الثمن دائماً، بما يعجز عنه المعوزون المؤبدون في فقرهم... و(إرهابهم)!.
___________________________
مطاع صفدي - كاتب عربي مقيم فى باريس
نقلاً عن " القدس العربي "