الخميس، ٥ يونيو ٢٠٠٨

مصر.. ثوابت نُسيت فى الزمن الصعب

كحقيقة أولى، بل وأساسية: الحضارات لا تنبت فى الصحراء، الحضارات تنبت بشكل رئيسى على ضفاف الأنهار، ثم - بشكل أقل أهمية - على شواطئ البحار الكبرى.
هذا صراع أبدى قدره الله بين الرمل والطين، الرعاة والزراع، صحيح أنه انتهى بشكل كبير - فى الإطار العالمى - مع ظهور الإمبراطوريات البحرية العملاقة وانتقال صيغة الصراع الى " بر وبحر"، وربما مستقبلاً الى " أرض وفضاء" لكنه - فى الإطار المحلى - لا زال موجودًا.
ماذا إذًا عن الحضارة الإسلامية؟!
بشكل له استثنائيته البحتة نبتت جذور الحضارة الإسلامية - ولا نقول ظهر النبات كله - فى صحراء الجزيرة، وكان هذا - فى رأيي - لاعتبارات جغرافية أكثر منها حضارية.. إعتبارات اعجازية فى تفسير أخر.. إعتبارات تخص الحالة الاسلامية وحدها، ومع ذلك - أو لذلك - لم يستمر مركز الحضارة الإسلامية فى الجزيرة طويلاً، بل على العكس كانت الجزيرة هى أقصر حواضر الإسلام عمرًا- 35 عامًا تقريبًا -، لم تستمر حتى نهاية العصر الراشد حتى، فقد نقل على كرم الله وجهه عاصمة حكمه من المدينة المنورة الى الكوفة فى أواخر أيامه.
وعلى ذلك - فترة بقاء العاصمة فى الكوفة لا تذكر تقريبًا -، فيمكننا اعتبار أن عاصمة الخلافة قد انتقلت من المدينة الى دمشق فى العصر الأموى، ثم الى بغداد فى العصر العباسى الأول،- ثم فى العصر العباسى الثانى تعددت الحواضر الإسلامية بداية من القاهرة ثم غربًا فى خط طويل شبه مستقيم - ربما قبل ظهور القاهرة - الى الأندلس ثم عودة مرة أخرى الى الشرق بخط مستقيم فى القسطنطينية، وكان هذا بعد سقوط بغداد بوقت قصير نسبيًا وبعد فترة سيطرة تامة للقاهرة.
ما الذى يعنيه هذا؟
أو ما الذى يمكن أن نستنتجه من هذا؟

نلاحظ التالى:
1- على الرغم من أن الجذور صحراوية الا ان الحضارة الاسلامية لم تبدأ فى التشكل ككيان حقيقى ملموس الا بعد الانتقال الى الحواضر الاسلامية الجديدة - الحضارية القديمة، بل الموغلة فى عمق التاريخ، وبالأخص بعد انتهاء عصور الفتن والخلافات والصراعات الدينية والمذهبية بشكل شبه نهائى واستقرار الاسلام فى البلاد المفتوحة ولم يحدث هذا الا مع بدايات العصر العباسى تقريبًا.
2- كأنما بقوة خارقة - وكدليل دامغ على ثقلها الإستراتيجى - تجاذبت مراكز الحضارات القديمة ( العراق - الشام - مصر ) الصدارة فى غير تنافس الا التنافس الصحى، وآلت إليها - ألم يكن هذا طبيعياً؟ - الزعامة.
3 - وحتى فى هذا الإطار الضيق برزت مصر والعراق كقوتين زراعيتين نهريتين أقدر على الاستمرار فى الزعامة أكثر من الشام ذى الموقع البؤرى الخطير - يشترك فيه مع مصر - لكنه فى الأغلب بيئة جبلية ساحلية ضيقة لا تملك من قوة الموضع ما يماثل قوة الموقع، وليس هناك دليل أكبر على هذا من أن الخلافة الأموية فى دمشق لم تستمر سوى 90 عامًا فقط، بينما استمرت الخلافة العباسية حوالى 450 عام فقط وظهرت مصر كقوة مستقلة تابعة " اسميًا فقط " لبغداد منذ عام 868 ميلادية وهو عام دخول أحمد بن طولون وتأسيس دولته فيها، مرورًا بالاخشيدية (935 : 969 )، ثم الفاطمية (969 : 1171)، والأيوبية (1171 : 1250)، وأخيرًا المملوكية ( 1250: 1517 )، وهو العام الذى عادت فيه مصر كمستعمرة مرة أخرى تدار من متروبول ضخم هو القسطنطينة هذه المرة.
4- شرق العراق أى أواسط آسيا المقر الرئيسى لرعاة الاستبس لم تقم فيه أى حاضرة سياسية اسلامية، تسيطر على ما غرب العراق، أو حتى العراق نفسه،- قامت فيه بعض الدول التى سيطرت على منطقتها فقط كالدولة الغزنوية، ثم دولة السلاجقة الأتراك على أنقاضها - ربما كانت هناك حواضر ثقافية ومراكز اشعاع للاسلام كخراسان وبخارى وسمرقند، لكن أكثر من ذلك لا يوجد.
5-إذا حصرنا نطاق المقارنة بين حواضر الإسلام فى مصر والعراق فقط فإنه بالضرورة تتفوق مصر رغم تبعيتها للعراق، فبينما يتفق الإثنان فى غنى الموضع، بقيت عبقرية الموقع فى صالح مصر بكل تأكيد مما جعلها تقوم فى العصور الوسطى بدور بطولى فى صد غزوات الصليبيين هجمات المغول.
العراق الذى يوجد على حدود المراعى الاستبسية الأسيوية، ولم يكن يطل على أى بحر باستثناء نقطة تصله بالخليج العربى كان بكل تأكيد يقل أهمية عن مصر التى تطل على بحرين هما عقدة وملتقى مواصلات العالم البحرية.
بل إن مصر لعبت فى هذه المراحل دورًا قميًا فريدًا يكشف عن جوهر ومكنون شخصيته الاستراتيجية كاملة ربما أكثر من أى وقت مضى أو تلا، وذلك بغض النظر عن شكلية التبعية للعراق أو الاستقلال عنه.
والإشارة هنا بطبيعة الحال الى الصليبيات والمغوليات. وإذا قلنا الصليبيات والمغوليات فقد قلنا جغرافيًا زحف أوربا وأسيا، وحضاريًا خروج الزراع المستقرين والرعاة الرحل، واستراتيجيًا قوى البر والبحر مباشرة، وإيديولوجيًا الاستعمار الدينى والوثنى على الترتيب.
وإذا كان الخطر الصليبى أسبق الاثنين ، فقد تعاصرا جزئيًا، بل كادا أن يتعاونا على هذا الأساس، وبهذا وجد الشرق العربى نفسه تمامًا ازاء استراتيجية الكماشة أو الرحى، وها هنا بالدقة يتحدد موقع ودور مصر المحورى فى تحطيم القوتين على حد سواء، مما مهد الطريق لها لزعامة العالم الإسلامى بعد ذلك ولمدة قرنين ونصف تقريبًا بعد أن انتقل أخر الخلفاء العباسيين - المستعصم بالله - للإقامة بها بعد تدمير بغداد.
ولسنا فى مجال سرد تاريخى لكيفية تصدى مصر للصليبيين والمغول، لكن يكفى أن نتخيل - مجرد تخيل - كيف كان سيكون مصير مصر وبقية العالم إذا لم تنتصر فى عين جالوت.
6- فى العصر الإسلامى الوسيط كان الدين هو روح العصر، وكان الإسلام هو العقيدة والعصبية والجنس والجنسية والوطن والوطنية جميعًا، وكان الأساس أن ينتقل المسلم بحرية داخل الوطن الإسلامى الكبير، أو الكومنولث الإسلامى الكبير، ولم تكن الدول تبنى على أساس عائلى شخصى بحت، بعيدًا عن النويات الجغرافية أو الحدود، ودون أى حساسيات اقليمية أو قومية حادة، ودون أى مدلول استعمارى، الاستثناء الوحيد من ذلك - وبعنف وضراوة كذلك - كان فى حالة " الكفار " من وثنيين او غير مسلمين كالتتار والصليبين.
ليس هذا فحسب، الأكثر منه، وما قد يبدو لنا اليوم أغرب، أن هذه الدول - تمامًا كما سلم البطالمة مصر للرومان - كثيرًا ما كانت تسلم نفسها بنفسها لبعضها البعض، ربما بكثير من الصراع السياسى والصدام العسكرى، ولكن بغير حساسيات قومية حادة تستثار أو تتراكم وبلا نعرات قومية واقليمية تلثم أو تمتهن.
وإنما الأقوى أو الأقدر على المحافظة على الإسلام والعصبية الإسلامية فى وجه الخطر الأجنبى،أى الكفار، هو الذى يدال عليه، بل وربما يستدعى من جانب المدال منه لكى يقوم بالمهمة المقدسة التى تعلو على الطرفين جميعًا وكما يلخص د. صبحى وحيدة ( كان أهل الدولة الفاطمية هم الذين دعوا الأيوبيين الى اسقاط هذه الدولة بعد أ عجزت عن الوقوف فى وجه الكفار. وكان الأيوبيين بالذات هم من أنشأوا فرق المماليك ومهدوا لهم الحكم. وكان المماليك هم من واطأوا بنى عثمان وانهزموا لهم وتعاونوا معهم فى الحكم)
حتى الرقيق المستجلب إذا أسلم وكان الأقدر حربيًا وعسكريًا على المهمة - المماليك كمثال -، وهو كظاهرة تاريخية نتج عصر عدم الاستقرار والاضطراب والاقتلاع البشرى الذى أحدثه الطوفان المغولى المخرب فى وسط آسيا،وحصاد ما صاحبه من أسرى الحروب والمعدمين والمقتلعين وعادة بيعهم، أو بيع أنفسهم كرقيق - حتى هذا الرقيق لا مانع سياسيًا أو قوميًا او عنصريًا من أن يكون السلطة والدولة دون أن يقال إن هذه أو تلك " أمة يحكمها العبيد الأجانب "، كما يصور البعض تحريفًا وتشويهًا، ولعل الأصح أن يقال " تلك أمم تصنع حكامها بأيديها، أو على أيديها ".
ومهما يكن، فلابد هنا من وقفة تحليل وتأمل:
أولاً: لقد جاء انتصار عين جالوت تاريخيًا، كما هى جغرافيًا، بين قوسين من الإنتصار على الصليبيين، أعنى بين حطين وعكا، أى أن مصر الأمفيبية - أى التى تجمع بين قوة البر وقوة البحر - حاربت بنجاح وفى وقت واحد ضد قوى البر " المغول" وقوى البحر " الصليبيين ".
ثانيًا: سنرى أن المتتالية الإستراتيجية التقليدية تتكرر بحذافيرها هنا: أغلب غارات الاستبس تصل دائمًا الى العراق الذى يكاد يتاخمه، وقد تصل أحيانًا الى الشام فى طريقها الى الهدف النهائى والعقبة الكبرى دومًا " مصر"، ولكنها لا تصل إطلاقًا أو بالكاد الى مصر - ربما بحكم المسافة المتزايدة، لكن قطعًا كرد فعل للقوة البشرية.
7- على الرغم من قدسية مكة والمدينة وأهميتهما الدينية لم تعد اليهما أبدًا الخلافة بعد العصر الراشد، ولم يفكر أحد فى هذا، بل على العكس كانتا دومًا تابعتين للقوة الإسلامية الغالبة.. الأمويون أولاً، فالعباسيون، وغالبًا بعد ذلك مصر - كانت مصر مسئولة عن إرسال كسوة الكعبة سنويًا الى مكة فى موكبٍ يسمى موكب المحمل، وذلك حتى وقت قريب جدًا من منتصف القرن20.
8 - بعد الإنتصار النهائى على مغول تيمورلنك فى القرن 14 انتقلت السيادة الإسلامية نهائيًا الى مصر - ألم يكن هذا طبيعيًا منذ البداية - وأصبحت مصر قلب العالم الإسلامى النابض وعقله المفكر وحاضرته الثقافية والسياسية الأولى.
9- مع العثمانيين اختلف الأمر بعض الشئ مع أنهم لا يختلفون عن المماليك فى كونهم رعاة استبس أصلاً قادمين من أواسط أسيا لكنها دورة التاريخ الطبيعية التى أشار اليها بن خلدون فى مقدمته الشهيرة " يأتى فرسان رعاة مليئين بالحماسة والشجاعة الى حكم مملكة زراعية مستقرة أعلى منهم بكثير فى المستوى الحضارى، يصيبهم الوخم وأمراض الحضارة، فيأتى فرسان رعاة أخريين مدججين بالحماسة السابقة، وهكذا دواليك.
مع العثمانيين - الذين كانوا بالنسبة للحضارة العربية فى مصر كالرومان بالنسبة للإغريق - حضارة عسكرية بلا أى نتج مادى أو معنوى ولا يوجد دليل أكثر حسمًا على هذا - على فارق المستوى بين الحضارتين - من نقل سليم الاول للألاف من مهرة الصناع المصريين الى عاصمة ملكه، وحتى القرن ال18 كان الأتراك يرددون أن " المسموع عندنا فى الديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم ".
مع العثمانيين عانت مصر - الى جانب ضياع سيادتها الطبيعية على المنطقة - الجهل والحرمان والأمراض حتى جاء محمد على بأخر امبراطورية مصرية تشمل الحجاز ونجد واليمن وسواحل الخليج العربى والشام والسودان وكريت، وتنشر أسطولها فى البحرين المتوسط والأحمر لتصبح قوة أمفيبية حقيقية تسيطر على حوض المتوسط الشرقى وتكاد تحيل البحر الأحمر الى بحيرة مصرية خالصة.
وكانت هذه الإمبرطورية تكاد تعادل من الإمبراطورية العثمانية نصفها مساحة، وكانت تأكيدًا أقوى حضاريًا من الأمبراطورية العثمانية حيث اخترقت مصر محمد على قلب الأناضول وهددت الأستانة فى وقت ما - كل ذلك فى إطار التبعية الشكلي! - لقد اصبحت مصر رجل الإمبراطورية العثمانية القوى، بينما كانت العثمانية هى رجل أوربا المريض.
وقد وصلت طموحات محمد على الى حد الوصول الى الخلافة فى استنبول نفسها وبالتالى استعادة مصر لموقعها الطبيعى على رأس العالم الإسلامى، وبدا هذا وشيكًا، أو أوشك، حين تكشف عجز تركيا عن مواجهة التهديد الروسى فى المضايق وبدأت الطبقة الحاكمة فى استنبول تقول علنًا " إن المصريين مسلمون مثلنا، ومن الأفضل أن يحكموا هم فى الأستانة بدلاً من أن يحكمها الروس".
10- وحتى بعد ذلك فإنه ليس أدل على أهمية مصر وتأكيد وجودها وفرض ثقلها ومغناطيسيتها واشعاع جاذبيتها من أن 4 حروب من أصل 5 اندلعت بين العرب واسرائيل كانت مصر طرفًا أساسيًا فيها، بل لقد فقدت هى نفسها قطعة من أرضها - سيناء - لمدة 6 سنوات.
_____________________
هذا الموضوع ليس وطنية زائدة، ولا اثارة لنعرة قومية، وإنما هو خط أحمر، تأكيد لثوابت التاريخ والجغرافيا والإستراتيجية وعبقرية الموقع وغنى الموضع وفروق الأوزان الإقليمية والحضارية والقدرة على التأثير وألاف التفاصيل الأخرى التى نسيت - بعمد - فى الزمن الصعب.
فإذا كان العالم العربى والإسلامى جسدًا واحدًا فعلاً ، فان مصر تمثل منه العقل المفكر والقلب النابض بالإمتياز، بل وبالضرورة.
هذا المقال - مع كل كلمة أخرى أكتبها فى حياتى - مهدى الى روح د. جمال حمدان، فلولاه لم يكن له أن يظهر، وهو له من الفضل على تفكيرى وعقلى وأرائى ما أعجز معه عن الشكر.
المقال مهدى أيضًا الى روح د. حسن إبراهيم حسن صاحب العمل الرائع " تاريخ الإسلام السياسى والدينى والثقافى
والإجتماعى ".

ليست هناك تعليقات: