الجمعة، ١٨ يونيو ٢٠١٠

الشهيد سيد قطب بعيون مسيرية..




كنت دومًا أردد أن أصحاب الفضل علي علميًا هما العظيمين: د. عبد الوهاب المسيري ود. جمال حمدان
بشكلٍ ما أضفت اليهما مؤخرًا د. عزمي بشارة رغم اني أختلف معه كثيرًا لكنه يضيف اليّ الكثير في كل مرة أقرأ له أو أسمعه، وأضفت اليهما أيضًا الفيلسوف الإيراني الشهيد د. علي شريعتي رغم اختلافي معه في بعض الأمور، وأخيرًا وصلنا الى الشهيد سيد قطب المفترى عليه.
ما سأكتبه هنا ليس مقالاً وانما خواطر بعد قراءتي الأخيرة لأعماله بعيون جديدة، وقلب كسيف حاسر معتذر عن ظنه السابق في الشهيد
قبل سيد قطب لم يكن هناك في التيار الإسلامي يهتم بالبعد المعرفي للإسلام، - لم يكن الشهيد حسن البنا مفكرًا وانما كان مُنظرًا حركيًا ممتازًا - وأقصد بالبعد المعرفي ( شكل العلاقة بين عناصر الكون الثلاثة " الإله - الإنسان - الطبيعة") من وجهة نظر الإسلام.. وقد ساد في الأجيال السابقة من الإسلاميين (بداية من محمد عبده والأفغاني ورشيد رضا) أن الإسلام يمكن - بشكلٍ ما - أن يتوافق مع الحداثة الغربية، حيث أنهم - كما قيل وقتها - يملكون المادة ونحن نمتلك الروح، وبالجمع بينهما تصبح لدينا حضارة انسانية رائعة، وهكذا ظن الشيخ محمد عبده أن تعريف العقل في الغرب هو نفسه التعريف الإسلامي له، وأن دور العقل في الغرب يمكن نقله بحذافيره الى المسلمين دون أن يتعارض مع الإسلام!!
في سياقهم التاريخي يمكنني تفهم ذلك، فلم تكن الحضارة الغربية قد ظهرت على حقيقتها كما هو واضح الأن، ولم يكن النموذج المادي الغربي قد كشر عن أنيابه تمامًا، وكانت المجتمعات الغربية تحمل بقية من من الأخلاق المسيحية تحفظ توازنها الداخلي.
أما الأن فإن ترديد هذا الكلام مرة أخرى يصبح جريمة..
وجاء الشهيد سيد قطب ليكون أول من يعيد اكتشاف امكانيات النموذج المعرفي الإسلامي ويُنِظِرُ له، بعد أن استبطنه المسلمون طيلة 13 قرن وطبقوه دون أن يُنَظِّروا له، واكتشف الشهيد أن هذا النموذج المعرفي الإسلامي القائم على فكرة أساسية واحدة هي: التوحيد لا يتواءم مطلقًا مع الحلولية المادية الوثنية الغربية
ولعل هذا كان السبب في ثوريته الفكرية، وهدوءه الحركي.
واتباعًا لهذا المبدأ قال الشهيد بحاكمية الله، وهذا مبدأ لا يختلف عليه مسلمان " ان الحكم الا لله"
والله أرسل لنا رسوله وأنزل عليه كتابه" ليحكم به بين الناس"، ف المركز هنا ليس أرضيًا وثنيًا، ليس الكنيسة/ الطوطم ( كما في المنظومة الحلولية الكاثوليكية والوثنية البدائية) وليس الدولة أو السوق ( كما في المنظومة الحلولية العلمانية) وانما المركز متجاوز يعبر عن نفسه بالوحي ( القرآن والسنة) ولا يحل في أحد من خلقه.
فالبنية المعرفية للمجتمع ليست هيراراكية هرمية بالمرة، وإنما هي أفقية دائرية، ولقد استبدلت مصطلح الهيراراكية الطبقية الهرمية بمصطلح " التراتبية الأفقية - نموذج الطواف والصلاة".
هذا ما كان يقصده الشهيد حين تحدث عن حاكمية الله تعالى وسطوته المطلقة على خلقه.. نقد الشهيد وثنية الدولة المركزية الحديثة المطلقة - دون أن يسميها - ، فلقد تبلور هذا النموذج في فكر المسيري )ورأى أنها تهدم أول قواعد التوحيد ( لا إله الا الله) ولا تنسوا أنه عاش في ذروة تجلي هذا النموذج في مصر ( عصر عبد الناصر).
حين أدركت هذا قلت: القول بوجوب طاعة من يُطلق عليهم : "أولياء الأمور " وعدم صحة الخروج عليهم ( مالم يمنعونا الصلاة!!) في ظل " الدولة الحديثة" ينمُ عن جهلٍ بالغ يحمل في جوهره بذرة شركٍ بالله تعالى.. والقائلون بذلك يُعذرون بجهلهم حتى يُعَرّفوا
هذا ما قصده الشهيد.. ان تطبيق الفقه السياسي القديم على الدولة الحديثة جريمة جهل. والخروج الأن ليس قول خوارجٍ بالمرة.. وإنما هو قول المسلمين الموحدين
فالإيمان بالدولة المطلقة شرك.

وهكذا مفهوم الجاهلية الذي فهمه الكثيرون خطْأُ، فما الجاهلية الا الوثنية التي وجدها الشهيد تعود وتعبر عن نفسها في كل مظاهر مشروع عبد الناصر الذي كان جوهره علمنة المجتمع والسقوط في التبعية الحضارية للغرب.
ان أحد انجازات سيد قطب الحقيقية التي يشاركه فيها المودودي والإمام الخميني هي استعادة السطوة للمصطلحات القرآنية: فلقد عبر الشهيد عن أفكاره بمصطلحات من نوعية " الحاكمية والجاهلية" كما استعاد الإمام الخميني ذلك المفهوم حين عبر أن أفكاره بمصطلحات "الحكومة الإسلامية والمستكبرين والمستضعفين."
هذه المصطلحات هي التي تعبر عن نموذج معرفي اسلامي، وليس كما يفعل الأن بعض الإسلاميون ويستوردون مصطلحات غربية ويحاولون تغيير مدلولاتها لتتناسب مع الإسلام، وكأننا لا نمتلك مصطلحاتنا ومجازنا الذي يعبر عن نموذجنا المعرفي..
الجاهلية عند سيد قطب هي بالضبط الحداثة وما بعد الحداثة ( المادية الصلبة والسائلة) عند المسيري.