الجمعة، ٨ أغسطس ٢٠٠٨

فليرحمهم الله..

أذكر ذلك اليوم بكل وضوح ,صباح الجمعة ذات يوم بارد كئيب , عندما أيقظتني أمي في فزع :
الحق ,بنت عمتك وولادها لسه ماجوش وبيقولوا فيه عبارة غرقت
قمت مفزوعا , لأتأكد أني لا أهذي , لأتأكد أنه ليس هناك خطأ ما في الأمر , مرت دقائق حتى استعدت توزاني , وعندما خرجت لأجد الأسرة كلها واجمة أدركت أن الأمر جاد الى درجة الموت ,بعد اتصالات مع السعودية اتضح الأمر , أصبح الموضوع قطعيا لا استئناف فيه ,بنت عمتي وبنتها وابنها على متن العبارة المنكوبة
أذكر أسود أسبوع مر علىَّ في حياتي , أذكر كل التفاصيل الدقيقة التي عشتها لحظة بلحظة
أذكر (أنس) الذي كان قطعة من روحي وبضعة منيِّ , أنس الصغير ذو الأربعة عشر عاما الذي – لأجل قدره – كانت هذه هى المرة الأولى في حياته التي سيزور مصر شتاءا ,كانت المرة الأولى..والأخيرة
أذكر عشرات الاقرباء الذين ذهبوا الى سفاجا من فورهم,الليالي الطويلة الباردة في الميناء في فبراير , أذكر دخولى المشرحة من أجل التعرف على الجثث , دعواتي من أجل أن أجد الجثة وسط أكداس الجثث الملقاة في ممرات المشرحة (أنس) الذي كان يملء الأرض مرحا ,أصبح جثة هامدة نحاول أن نتعرف عليها, أحاول أن أجدها وسط تلال الجثث
لم أنس حتى هذه اللحظة وقت أن عرضوا صور الجثث التي تم العثور عليها , كل صورة تمر أدعو الله أن يكون هو , وقتها هبط ضغطي بصورة مخيفة وضعف تنفسي وسال العرق البارد على جبيني , ارتجاف عضلات ساقي في توتر
أذكر ذلك الفتى الذي كان يبحث عن أباه وتصادف أن يجلس جانبي , ننتظر في هدوء ونعلم جيدا أن قضى الأمر
نتبادل الكلمات الوجيزة , تلك اللحظات العصيبة صنعت منه ومني رجالا قبل الأوان بكثير,علمتنا أن نكون أكثر هدوءا وحكمة , أن ننتظر في صبر, لا أذكر مسيحيا كان أو مسلما , قاهريا أم صعيديا , كل هذا لا يهم , عندما يصبح أقرب الناس اليك في عرض البحر تتلاشى هذه الفوارق , ان المصائب يجمعن المصابينا
هل جربت هذا الاحساس من قبل ؟ أنا جربته
أنت تحس بالألم لأن عزيزا عليك مصاب بوعكة , أنا كنت أتمنى أن أجد جثته !, كنت أتمنى أن أجده حيا , عرفت أن هذا صعب , قلت فليعد ميتا , عرفت أن هذا أصعب , لكنهم حرموني منه حتى من جثة أحملها بيدي , أصلى عليها صلاة أخيرة , حرموني من قبر أزوره أقرأ عليه الفاتحة في خشوع , كل شئ تحطم في لحظة عابرة.. في نزوة فاجرة
لازلت أذكر ثانية بثانية دخول شاحنة عملاقة تحمل الجثث القادمة توا من سفاجا , أذكر قيام الرجال مرة واحدة واحاطتهم بالعربة , تلك الدموع التي سالت في صمت , دموع رجال فوضوا أمرهم الى من لا يغفل ولا ينام, أذكر صراخ النساء الوحشي المتصاعد , الصراخ الذي يمزق نياط القلوب , كل منهم فقدت رجلا كان الأهم بحياتها , كل واحدة منهن يوجد بجانبها من يحتضنها في تلك اللحظة , أسمع عبارات مختلطة , (كفاية بقى يا أمه) , (شدي حيلك يا ستي الحاجة) , ( كان مكتوب لك فين دا يابني) ,( ربنا يقصف عمر اللي خدوك من حضني يا ضنايا) سأظل أحمل مرارة هذه اللحظة في حلقى حتى أموت , أذكر هذه اللحظة – حتى الآن - فتسيل دموعي في صمت
أذكر هذه الأيام بكل تفاصيلها وكأنها حدثت الأمس
الآن وبعد مرور عامين صدر الحكم ...براءة
في ذلك اليوم الأسود عندما سمعت الحكم احتشدت الدموع بعيني , 1034 مصريا ماتوا غرقا , هؤلاء المئات الذين عاشوا في الماء والظلام والبرد ساعات طويلة , من المسئول عن دمهم ؟ من سيعوضهم ؟ , من سيعوض (سحر) عن ابنتها الرضيعة التي حملتها على كتفها طيلة الليل وحينما ماتت الرضيعة تشبثت بجثتها وعندما أنقذوا الأم سقطت منها جثة ابنتها للأسماك ,من سيعوضها عن ابنتها يا سيادة القاضي, من سيعوض (محمد) عن زوجته وأبناؤه الأربعة الذين فقدهم دفعة واحدة. من سيعوض كل هؤلاء, من سيعوضني عن أسود أسبوع عشته في حياتي؟
سيادة القاضي , هل تذكرت يوم تقف بين يدي الله , وحيدا , وحيدا جدا , ماذا ستقول وهو الجبار المنتقم , بأى أساس تحكم بالبراءة , هذه الأرواح التي ذهبت هدرا , ماذا ستقول يوم ان تسأل بأى ذنب قُتِلَت ؟ , اذا كان الجميع براءة الا واحدا حصل على ستة أشهر , من الجاني اذن , هل نحن أولاد كلاب الى هذه الدرجة ؟
سيادة القاضي من أعطاك الحق في هذا الحكم ؟ ممدوح اسماعيل ليس ربا ليقتلني بمشيئته , ممدوح اسماعيل ليس الله حتى يأخذ أرواحنا كما يحب ويرضى ,سيادة القاضي.. نحن في عصر رئيس يقتلنا ليثبت أنه موجود
أذكر بوضوح عندما ظهر في( البيت بيتك) مع تامر أمين , تامر أمين الذي تعامل معه برقة شديدة , ممدوح بوجهه الخنزيري يكاد لولا الحياء يطالب بتعويض عن سفينته الغارقة , أذكر طاقم العبارة الناجي الذين وصفوا اللحظات الأخيرة والتمعت الدموع في عين كل منهم وهم يذكرون العشرات الذين فقدوهم وسط الامواج , من سيرد حق هؤلاء يا سيادة القاضي؟
من المسئول عن كل مرة تتساقط الدموع من عيني وأذكر مئات الشهداء , وأذكر أنس الصغير الذي مات في عرض البحر أصبح طعاما للأسماك, مات وحيدا غريقا خائفا في أسوء طقس ممكن وفي ليلة مظلمة , لم أودعه الوداع الأخير , لم ألقنه الشهادة, لم أسمع آخر كلماته , كان هنا وفي لحظة انتقل الى عالم آخر عند من لا ينسى ولا يظلم
وفي النهاية ...براءة
اذا كان هذا هو القانون , اذن طظ في القانون , طظ في أى قانون لا يعيد حقا الى أصحابه
أنا لا أؤمن الا بالقانون الأزلى العين بالعين والسن بالسن ومن قتل يقتل
طالما تمنيت أن يلقوا بذلك الحيوان في عرض البحر في نفس الظروف , لا , فليقوا بابنه وليعش طوال العمر بحسرته حتى أشفى غليلي
يا سيادة القاضي , منذ الآن أصبجت جلاد دنشواى الجديد, لقد حكمت بالبراءة , براءة شخص وادانة عصر بأكمله
عصر فقدنا فيه كل شئ , وفقدنا فيه القضاء العادل , فقدنا حائط الصد الأخير, فقدنا آخر شئ يحمينا في زمن الطوفان
اللهم اليك المشتكى
اللهم اني أشكو اليك قوما قتلونا وظلمونا
يارب ليس لنا ملجأ الاك
يارب لا تتركنا فرادى ضعفاء
يارب ليس لنا سواك
يارب , لاتتركنا في هذه اللحظات الصعبة
يارب لا تخذلنا
رب ان تك حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير وانتقم لنا من هؤلاء الظالمين
رب اني مغلوب فانتصر
فلتهنأ أيها الحيوان بالبراءة , أدعو من الله أن تموت من غيرأن ينفذ عليك حكم ,لا توجد أى محكمة على وجه الأرض تعيد من ماتو وتشفي غليلي , لذا فقد أجلت محكمتي الى يوم الدين , رفعت قضيتي عند اله عادل جبار منتقم شديد العقاب, محكمة لا تحتاج الى شهود نفى وثبات وأدله ومرافعات , وقتها فقط سأقول أني رضيت وأن الله يمهل ولا يهمل.

___________________________
بقلم صديقي العزيز الشاعر: محمد فوزي خلف

ليست هناك تعليقات: