الاثنين، ١٤ يوليو ٢٠٠٨

قمة عقيمة أخري لعظماء المال والسلاح تقرر حكومة عالمية لإدارة الكوارث وليس لعلاجها

الحالة الكونية سوف تتقدم حتي علي ما يسمي بالسياسة الدولية. هناك حاكميات جديدة تعلو ما فوق قطائع السياسات لجملة الدول كما لمفرداتها. فليس الأمر لمن هو الأقوي أو الأضعف. أمست جميع أمم العالم في مرتبة الضعف الشامل إزاء نوع التهديدات الوجودية الخارجة عن إرادتها، والتي تتجاوزها جميعها، وتضعها في سلة واحدة من معاناة العجز تحت وطأة امتناع الحلول لمشكلات لا تقع تحت رقابة الوعي أو التدبر العقلاني.
فان ثقافة الإستراتيجيات استنفدها الصراع العقيم علي أحاديات التسلط والنفوذ لتلك الدولة أو سواها حتي يبدو أن زمن الساسة المحترفين قد ولي منذ أن قبل زعماء العالم بالتبعية للقادة العسكريين، تم انتقلوا إلي مرحلة التحالف مع جبابرة المال، وقبلوا أخيراً وظيفة السمسرة لصفقاتهم، في مرحلة تالية علي عصر الايديولوجيات وحروبها الهمجية المطلقة. وها هم اليوم يدورون في حلقة مفرغة إلا من حجم الكارثة المطلقة التي أمست تشغل مركزها وحدها، كأنما فقدت حضارة العصر كل رقابة ممكنة علي أمراضها المزمنة.
زعماء العالم مدعوون قسراً عنهم إلي تشكيل (الحكومة العالمية). لكن أحداً منهم لا يجرؤ علي تحمل المسؤولية. فهم المذنبون أولاً بارتكاب كل الأسباب المؤدية الي حال العالم الراهنة الموصوفة بكل نعوت الأخطار الشمولية. فقد خضعت استراتيجيات الدول العظمي إلي هذه العاهة الفلسفية، وهي التوافق علي مجهولية الأسباب الحقيقية لتفاقم الأزمات العامة منذ أن أمكن حصُرها في قطاع الدول الفقيرة عصراً طويلاً، لكنها في حصارها الغبي ذاك تكاثفت عواملها حتي شَكلت ما يشبه القنبلة النووية المهدِّدة بانفجار يخترق كل الحصون الفاصلة بين عوالم غنية متقدمة وأخري فقيرة متخلفة. غير أن أعضاء الحكومة العالمية غير المعلنة الملتقين في القمة اليابانية، لا يزالون متمسكين بخرائط العالم القديم. فليس في جعبتهم إلا تلك العلاجات المسكّنة لأمراض تخطت تشخيصاتها المستهلكة. وتحولت إلي ما يشبه الأوبئة العابرة للقارات. ذلك أنه من طبيعة كل كارثة إقليمية في عصر العولمة، أنها تتطور الي نوع الكارثة الوبائية. فالعولمة لا ترفع الحدود أمام الاستثمارات فقط، إنها ناقلة وحاملة معها لجراثيم المفاسد الي كل مكان. ليست الأخلاقية، بل التكوينية، أي من سلالة تلك الأعطال التي تدفع أثمانها أمم كاملة، بل إنسانية عصر ما. فيبدو أن العصر الراهن هو الآتي بالذروة التي تتلاقي عندها النهايات العظمي لهذه الأعطال، والتي صار يعبر عنها بالأخطار الكاسحة لكلا الأمنين معاً الإقتصادي المعيشي لغالبية سكان الأرض من جهة، والحيوي البيئي للأرض نفسها، لتربتها وفضائها، ولكل حياة ما بينهما.
حديث هذين الأمنين لم يعد ترفاً ثقافوياً. وربما لا يغطي أحدهما الآخر بقدر ما يفاقم كل منهما من عوامل الآخر. وفرض مظاهره وتبعاتها المخيفة، مع مضاعفة الحاجة الماسة الي المواجهة العاجلة لأخطارهما، علي أن تتعدي هذه المواجهة دوائر الخبراء ونشاطات المؤتمرات والندوات، حتي لقاءات القمم الدولية السياسية. إنها من فعالية المجتمع الدولي الآخر، أي غالبية المعمورة المحجوبة حتي الآن وراء يافطات أنظمتها الحاكمة وديكتاتورية الإعلام الرسمي المقنن لانفراجات الحقائق والمعلومات، والمحتكر لصناعة الخبر وفبركة الرأي والتحليل. فليس من صدف التاريخ أن يقترن أخطار هذين الأمنين، مع انهيار النسبة المروعة لحجم الديمقراطية في عالم اليوم، وخاصة في تلك الدول التي تدعي أنها مواطن الحريات وحقوق الانسان. فخلال حقبة الأمبطرة البوشية وحدها، تساقطت تدريجياً وبسرعة مناعات دولة القانون والمجتمع المفتوح: وتعاظمت سلطة (الأمن الأمني) الخالص، بعد لم تعد تسوّغه إلا حيثيات إكراهاته عينها. صار مألوفاً في أمريكا، ومن بعدها في أوروبا، تقبل التشريعات المنتقضة (قانونياً) لحريات المواطنين وأمنهم الذاتي، مع هذه الهرولة الجماعية سريعاً نحو الدولة البوليسية أو الفاشية. انه التعامي المقصود عن مواجهة (أسباب) الارهاب الديني، الذي عجل بتنمية نشاطاته حتي أمكن تضخيم حجمه الي مستوي العدو الأكبر لمدنية الغرب. وهو عينه التعامي الأخطر الهادف إلي التغطية علي ظاهرة الانفجار المزدوج للأمنين البيئي والاقتصادي في وساعة دنيا العولمة المعاصرة.
هنالك بعض أصوات سياسية وعلمية حرة، لكنها نادرة، تتحدث بعبارات صريحة أنه لم يعد يمكن التعامل مع شمولية الكارثة الكونية إلا من خلال إعادة النظر في نظام الإنتاج والاستهلاك. فهو ذلك النظام القديم الناشئ منذ قرنين يوم كان سكان العالم لا يتجاوز عديدهم المليار الواحد. فكان يمكن لأمنا الأرض أن تتحمل عوامل السلب والنهب لثرواتها الطبيعية، والمزيد من تلويث بيئتها الحيوية، من أجل أن تطعم أقلية لا تشبع أبداً مقابل غالبية الفقر المدقع أو نسبياته من هذا المليار من السكان الذي تقفز أرقامه بمعدلات هندسية متضاعفة، يصاحبها إيقاع الحروب الاستعمارية والعالمية القاضية علي الملايين (الزائدة)، كما كان هو التسويغ الأخلاقي جداً الذي يردده أرباب هذا النظام. ولكن مع وصول عديد البشر إلي ما يناهز السبعة مليارات، والسائرة سريعاً نحو العشرة وما يتجاوزها، فليس ثمة نظام في الانتاج والاستهلاك، هو في أصله من صنع البشر، يمكنه أن يظل هو عينه، في حين أن البشر، أسياده وعبيده معاً، يعتريهم كل هذا التغيير الهائل في حجميْه الكمي والنوعي. ومع ذلك فلا يبدو أن هؤلاء البشر، أو (صنف) الأسياد منهم، سوف يستجيبون لحتمية التغيير. هنا تنبري الطبيعة وحدها لتتولي عن البشر والتاريخ العاجزين معاً، مهمة الضربة القاضية. إنها تشهر أمام الجميع سلاحها الأقوي الأمضي من كل سلاح أو دفاع، بشري أو تاريخي، والمتمثل في وحدة الخطر الأعظم لكل من الأمنين الغذائي والبيئي.
(حكومة العالم)، السائدة علي العالم بقوة الأمر الواقع، هي السلطة الافتراضية العليا التي تنتدب نفسها لخلاص الإنسانية في اللحظة الحرجة. ولكن عليها قبل كل شيء أن تحسم أمرها بين الخيارين التقليديين، فاما أنها (تحلّ) الأزمة أو (تديرها)، زعماء الدول الثماني الأغني والأقوي ليسوا من خانة الرجال المختارين أو المصطفين، ليس بمقدورهم، وخلال اجتماعهم الياباني الأخير، الانتقالُ دفعة واحدة من صف المدراء علي المشكلات الكبري، الي صف الاصلاحيين العاملين فعلاً وليس قولاً وتصريحاً، علي انقشاع الأوهام التقليدية الفاصلة دائماً بين الأسباب الحقيقية لكل إشكالية وبين نتائجها الكارثية المسيطرة اليوم علي مقدمة المسرح الدولي، وخلفيته معاً. كأنما أصبح الجهد السياسي للدول العظمي مجرد مناورات دبلوماسية للتمويه علي حقائق التطورات العالمية. فحين تقر قمة اليابان مبدأ خفض انبعاث الغازات الصناعية الي مستوي النصف حتي عام 2050 دون تحديد أجندة واضحة لكيفية التنفيذ ودون رقابة دولية جدية، فانها تعتبر مثل هذا الاتفاق أشبه بالانتصار الأكبر، لأن القمة استطاعت أن تفوز بموافقة أمريكا الممتنعة منذ أول مؤتمرات البيئة علي مشاركتها الجديدة في التدابير العالمية لمكافحة التلوث، لكن دونما أية ضمانات موضوعية للتحقيق وآليته.
إذا كانت المواجهة الكلية مع الأمنين الغذائي والبيئي قدراً كونياً سارياً مفعوله الكارثي علي الجميع، إلا أن بعض الغرب المتأمرك لا يزال يعتقد أنه قادر علي استثناء ذاته من تبعة أهواله، وبالتالي من المساعدة الجدية علي كف شروره. بل ربما عمل علي أن يكون ذلك هو المصير المحتوم للـ(آخر)، ومن دونه هو اليوم وغداً..
مع ذلك ربما يتميز القرن الواحد والعشرون وفي بداياته المتلاحقة راهنياً، بأنه يشبه ذلك الزمن الأخير الذي تتراكم فيه كل مشكلات التاريخ الانساني، وخاصة منها المستعصية علي حلول العهود السابقة. فالوضع الكوني ليس محصلة تركيبية عليا للعوامل الايجابية الآتية مع انجازات التقدم، بقدر ما هي محصلة عليا، لكنها مختلة التركيب عضوياً وبشرياً، فقد بات علي إنسان العصر ألا يدفع تكاليف تقدمه المفرط الحالي فحسب، بل ومعها معظم تكاليف ماضي التقدم التي أجلت استحقاقها الأجيالُ السابقة، ورمتها علي عاتق إنسانية القرن الواحد والعشرين هذا الذي صار عليه أن يواجه النهايات العظمي لكل شيء، وإلا واجه هو نهايته المطلقة.
ظاهرة مؤتمرات القمة المتسارعة علي الصعيد الدولي قد تبشر بولادة نوع من التحسس الجماعي بفداحة الاستحقاقات السوداء الكبري التي تنتظر الجميع، بالرغم من كل الفروقات التقليدية التي تقسم المعمورة بين أغنيائها وفقرائها. ففي أسبوع واحد انعقدت ثلاث قمم دولية، حاولت كلها إدعاء التصدي لهموم إنسانية العصر. لكن بالطبع كانت قمة الثماني الكبار في اليابان هي المعتادة علي ترشيح نفسها كحكومة للعالم، فهي المتمتعة بسلطة القرارات ذات الصفة المصيرية، سواء قبلت بها دول المعمورة قاطبة أو رفضتها. انها المالكة لتلك القوي الرئيسية الممسكة بخارطة التوازنات في كل شأن جماعي، وتحت طائلة ما تعتبره هي أولاً عاملاً ضامناً لاستقرار السلام العالمي. فكل هذه المعايير المطلقة تخول أصحابها احتكار مقاييس الخطأ والصواب، لكنها فيما بين رموزها القيادية، تسمح لذاتها بارتكابات كل المعصيات ما دامت قادرة علي فرضها والدفاع عنها.
المضاربات المالية بالأرقام الفلكية المنصبة كلها علي التلاعب بعقود الطاقة والغذاء إنما تجري جميعها في بورصات هذه الدول (العظمي)، وتمارسها الشخصيات المعنوية لشركاتها المتعددة الجنسية. فهي في الحقيقة الآمرة الناهية في كل ما يتعلق بأحوال مليارات الأنفس من سكان هذه المدنية، من أعلي اهراماتها إلي أخفض قواعدها. وبالتالي فليس هو (المجهول) الذي يعبث بحياة الناس ويتلاعب بأرزاقهم اليومية. وعندما يجتمع قادتهم السياسيون تحت طائلة تلافي الأزمات الكونية المستعصية، فهم يعلمون حق العلم من هم صُنّاع الأقفال المغلقة، وأين يخفون مفاتيحها السرية. لكن من هم الساسة، القادة العظماء حقاً الذين يمكنهم ألا يكونوا مجرد شركاء موضوعيين أو سماسرة عند أباطرة المال في أوطانهم وسواها، فالسياسة الوطنية أو الدولية أمست في عصر الرأسمالية المتوحشة، صنفاً من المناورات الاقتصادية، المتعاملة بغير أسمائها الأصلية.
المثقفون الواعون في الغرب يعتقدون انه لا مفر من قيام تلك السلطة الشاملة التي يمكن أن تجسد حلم الحكومة العالمية شرط التغلب بدئياً علي علة المركزية الغربية التي يحاول دعاة العولمة تجديد خطابها الفكري حسب منطق التفرقة العنصرية بين حضارة الديمقراطية و(بدائية) أعدائها. وعلي هذا تصبح كل عاهات العصر لها ما يبررها، اذا ما حوصرت في مساحة القطاع الآخر من هذه الخارطة الجيوأنطولوجية الجديدة. إنها عاهات كبري حقاً، لكن الغرب ليس مسؤولاً عنها ولن يعطي علاجات حاسمة لها بل أن التجويع في الغذاء والطاقة، وتسميم البيئة هي خصائص (العالم الثالث) الذي ينبغي أن تتحول إلي خانته بقية العالم، ما عدا الغرب طبعاً الذي سينعم وحده بكوكب آخر من نظافة اللون والجو، تسوده ثقافة الرفاهية باهظة الثمن دائماً، بما يعجز عنه المعوزون المؤبدون في فقرهم... و(إرهابهم)!.
___________________________
مطاع صفدي - كاتب عربي مقيم فى باريس
نقلاً عن " القدس العربي "

هناك تعليقان (٢):

منال (محبة عائشة رضي الله عنها وأمهات المؤمنين) يقول...

و الله اللي في نفسي كتيييير ...بس المقال أوجز في إتقان شديد الوضع الراهن ربنا المستعان...و أهلا بك في مدونتي المتواضعة

أحمد عبد الفتاح يقول...

تسعدني زيارتك عزيزتى
وسارده باذن الله