السبت، ١٣ أكتوبر ٢٠٠٧

العلمانيون - بالتأكيد - لا يمتلكون خريطة!

لا يثير شئ حنقى ويرتفع بمنسوب الغيظ فى دمى ويكاد يصيبنى بالفالج قدر أن أسمع أحد منظرى العلمانية حين يقول إن أهم سبب دعاه للايمان بالعلمانية هى تجربة أوروبا فى العصور الوسطى حيث لم تتقدم أوروبا وتبدأ عصر نهضتها الا بالتخلص من شبكتها السوداء مع الكنيسة الكاثوليكية.. هذا الادعاء - على سلامته الظاهرية - يثير شجونى فعلا فيما يتعلق بثقافة من يدّعون أنهم مثقفونا بشأن ظروف التاريخ والجغرافيا أو حتى المعرفة الدينية بصحيح الاسلام بل وحتى المعرفة بطبيعة الانسان الشرقى ومكونات شخصيته..

أولا:نظرة بسيطة من جانب مثقفينا الى جنوب المتوسط وشرقه تكشف لهم كيف أن هناك حضارة عظيمة الآثر والتأثير فى التاريخ قامت بشكل أساسى على امتزاج وتناغم مبهر بين الدين والدنيا.. بين الاسلام والحياة ، فكما أردد دوما.. الاسلام ليس مجرد علاقة بين العبد وربه.. الاسلام دنيا وأخرة، دين ودولة تلك الحقيقة التى يؤكد عليها البروفسور جون هوبسون أستاذ العلاقات الدولية بجامعة شيفيلد فى كتابه الرائع "الجذور الشرقية للحضارة الأوروبية"* حين يقول: قام الشرق الاسلامى بصياغة عولمة اقتصادية عالمية بمعنى الكلمة فى الفترة ما بين عامى 500م :1100تقريبا على الرغم من ضعف وسائل النقل والمواصلات فى تلك الفترة مقارنة بعصرنا الحالى الا أنها -كانت كافية جدا لتحمل مشقات تكوين العولمة الاقتصادية الاسلامية ، فلدى الحريرى وهو أحد الكتاب العرب - والكلام لازال مع هوبسون-تاجر يقول :أريد أن أنقل الزعفران الفارسى الى الصين لقد سمعت أنا أسعاره مرتفعة هناك.. ثم أنقل البورسلين الصينى الى اليونان ثم أنقل القماش اليونانى المخطط الى الهند..ثم أعود فأنقل الحديد الهندى الى البصرة.. ويدل ايضا على ازدهار التجارة الحرة وقيم المدنية والقيم الاقتصادية الحديثة أكشاك تغيير العملة التى كانت موجودة بمساجد الكوفة وكان التجار يوفون بعهودهم "قيمة اسلامية" واخترعت الأنظمة المحاسبية ذات المدخلين وعرف الائتمان وتسليف القروض..

ثانيا: يثور سؤال فيما يتعلق بظروف التاريخ.. هل تصلح العلمانية كحل لمشاكلنا نحن الذين جربنا كل الحلول من الشرق الى الغرب فلم تفلح بل لعلها زادت من كوارثنا فى اثبات مذهل لقول عمر رضى الله عنه: نحن قوم أعزنا الله بالاسلام فإن ابتغينا العزة فى غيره أذلنا الله
التاريخ يتفق مع طبيعة الانسان الشرقى فى اثبات أن الدين كان على الدوام المكون الأساسى لشخصية الشرقى عموما المصرى خصوصا..ناتج هذا عن نزول ال3 ديانات السماوية فى الشرق .. عن الحضارات الشرقية القديمة المتفوقة التى أمنت كلها بضرورة البعث والجزاء .. عن أسباب أخرى ربما لكن النتيجة فى النهاية أن الدين أصبح ليس مكونا من مكونات الشخصية الشرقية لا يجوز انتزاعه فقط، انما تحول الى أسلوب حياة وميزان توزن به الأعمال ويقرر به ان كانت صالحة أم لا.. فالدين _وأتحدث هنا عن الاسلام- استولت الدنيا على ثلثى مسائل فقهه، فقد قسم الفقه الى ثلاثة فروع :العبادات و المعاملات والمعاشرات وهو ما يوضح لك أن الدنيا قد استولت على ثلثى اهتمامات الفقه الاسلامى بينما العبادات أو المظاهر الاسلامية المعتادة لم تحز الا على الثلث لأننا نؤمن أن"حياتنا كلها"وليست عباداتنا فقط أو مظاهرنا التدينية هى ما يقودنا الى الجنة فى النهاية..لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فى حكمة رائعة"الايمان ما وقر فى القلب وصدقه العمل"..
التاريخ أيضا يقول أنه ما من انتصار حققه الشرق الا كان عن طريق الدين ولا يتوقف هذا فقط على العصور الاسلامية انما منذ عصور مصر القديمة غير الموحدة حتى.. كان المصرى القديم يحارب لأجل شيئين:
1- كى يعبد أعدائه الهه المنتصر
2- كى ينتصر لمليكه ظل الهه فى الأرض وابنه أيضا كم كان يطلق على ملوك مصر القديمة والملوك الأقدمين بشكل عام
التاريخ لا يخرس أيضا عند هذا الحد.. بل يخبرنا أن المصريين القدامى والشرقيين القدامى عموما بل وكثير من محدثيهم كانوا يسكتون عن ظلم حكامهم باعتبار أن هؤلاء الحكام هم ظل الله على ارضه والحاكمون باسمه.. صحيح أن هذا هو الوجه المظلم للحكم بالدين لكن من قال أن دولة الاسلام هى دولة ثيوقراطية متشددة.. على العكس تماما، فالاسلام دولته مدنية حديثة وهذه حقيقة يجهلها أو يتجاهلها منظرو العلمانية دوما على اعتبار أن الاسلام كأى دين آخر.. أى حكم به انما هو ردة على الدولة المدنية الحديثة التى هى الشكل الأمثل الذى اصطلحت عليه البشرية الآن للنظام السياسى للدول..
وهاكم الدليل:

مما سبق - وأرجو أن أكون وفقت فى توصيل ما أرمى اليه من مفاهيم -يتضح لنا أن العلمانية ماهى الا وهم كبير وأنه حتى فى مجال التطبيق يتضح لنا كم تترنح الحضارة الغربية العلمانية تحت وطأة سيادة الأحكام المادية مما أفرغها من أى نسق قيمى يمكن أن تهديه الى العالم وحولها الى مجرد صانعة آلات..

ونحن لا نريد أن نتحول الى ذلك
________________________

*مكتبة الأسرة 2007.. ترجمة منال قابيل

ليست هناك تعليقات: