الجمعة، ٦ فبراير ٢٠٠٩

اشكالية الفن.. تحليل النموذج الكامن

1- تبسيط المفاهيم:
باختصار شديد: تقوم فكرة "
الحداثة المنفصلة عن القيمة " على افتراض أن الإنسان - عقله الطبيعي/ المادي تحديدًا - هو مركز الكون من بين عناصره الثلاثة (الإله - الطبيعة - الإنسان )، مع استبعاد الإيمان بكل ما هو خارج عن نطاق ذلك العقل / الطبيعي ، كفكرة الإله المفارق المتجاوز للتاريخ والطبيعة مصدرًا للأخلاق والقيمة والمعيارية والغاية والهدف، وكل تلك الأمور الخارجة عن نطاق القياس المادي الرياضي الصارم!
وبالتالي فقد أصبح العقل الطبيعي/المادي هو مصدر الأخلاق والمعيارية والغاية والهدف، دون الحاجة الى أى مصدر أخر للمعرفة خارج حدود الحواس الخمس، كالوحي الإلهي مثلاً، لأنه أمر خارج عن حدود المادة فلا يمكن قياسه وبالتالي لا يمكن الإعتراف به!
وللتبسيط.. يمكننا فهم هذا المصطلح اذا تخيلنا سيارة تخرج من أسوان وتسير بطول الوادي شمالاً الى القاهرة، هذا يعني أن السيارة لها بداية ( أسوان )، ولها هدف نهائي ( القاهرة)، وتمتلك خطة للوصول اليه ( السير بطول الوادي شمالاً).
وفى المقابل دعونا نتخيل سيارة أخرى خرجت من أسوان، ثم شمالاً بطول الوادي الى القاهرة ومنها الى الإسكندرية، ثم عبرت البحر المتوسط الى إيطاليا، ومنها عبر أوروبا الى القطب الشمالي، ومنه الى القطب الجنوبي، وهكذا!
السيارة الثانية تمثل مفهوم " الحداثة المنفصلة عن القيمة "، وهي سيارة غبية هدفها المجرد والنهائي هو السير وليس توصيل الناس.
وإشكالية " الحداثة المنفصلة عن القيمة "، إشكالية وقعت فيها الفلسفة الغربية حين نحت الإله/المطلق/الأخلاق/ الغاية/المعيارية عن مركز الكون، وفوجئت بعد ذلك بأن العقل الطبيعي المادي وحده غير قادر على تحديد هدف للحياة، ولا قيمًا تحكم توجه هذا الهدف، فجعلت التقدم فى حد ذاته هدفًا نهائيًا!
ولنتذكر مثال السيارة التى تسير بغير هدى، سيارة هدفها السير فقط!
فكرة شديدة العبثية والسخافة بالطبع..!
بالتالي تصبح حركة الإنسان عشوائية مادية بحتة، غير واضحة الهدف ولا حتى المعالم، بالضبط كما هي حركة الإلكترونات حول الذرة، وليحاول أى حد أن يمسك بالكترون ثم يسأله ما هو الهدف من دورانك الأبدي حول نواة الذرة ولينظر بم سيجيبه!
ونتج عن الإيمان بأن العقل الطبيعي المادي هو وحده المطلق، أعلن نيتشه وقتها ما أطلق عليه " موت الإله، أن انفصلت كل مجالات الحياة بالتالي عن القيم والغائيات الأخلاقية بمصدرها الإلهي الذي أعلن نيتشه موته، وأصبحت خاضعةً فقط للقوانين الكامنة فيها، تستمد معياريتها من ذاتها!، فيحكم على المجال الإقتصادي بمعايير إقتصادية فقط، والمجال السياسي بمعايير سياسية فقط، والمجال الفني بمعايير فنية فقط!
ما يهمنا هنا هو المجال الفني..
فى أحد مشاهد فيلم " بحب السيما " يُسقط الطفل " نعيم " صور السيدة مريم على الأرض ليكتشف أن أمه (ليلى علوي)، الفنانة التشكيلية السابقة، قد رسمت على ظهرها صورًا عارية، يدخل فى هذه اللحظة الأب (محمود حميدة) المتزمت دينيًا ليجد هذه الصور فيغضب غضبًا شديدًا ويصرخ وهو يمزق تلك الصور:
ده حرام، فتصرخ فيه الأم: " حرام عليك ده فن "!
تلخص كلمة " ده فن " كل شئ من وجهة نظري، والمفهوم الكامن ورائها أوضح من أن يوضح، فالفن أصبح قيمة مطلقة يستمد معياريته من ذاته، بعيدًا عن أى مطلق ميتافيزيقي خارجي يحكمه ويوجه حركته، الأخلاق مثلاً، لكن الفن فى حد ذاته مطلق ميتافيزيقي غير قابل للقياس المادي الصارم، وبالتالي كان طبيعيًا أن يسقط لتحل محله المادة ( الجنس/ المال)، وهو ما نلمسه بشدة الأن فى كل الأغاني والأفلام والرسومات والكتابات والأعمال (الفنية) الهابطة التى تنزل علينا كالصواعق كل يوم!
وفى داخل الإطار المعرفي يصبح مفهومًا بل ومقبولاً أن يكون أمر المخرج مقدمًا على نهي الله (المطلق الذي تم قتله
وأن يصبح التعري للضرورة (الفنية) أهم من الإحتشام للضرورة الدينية،
وأن يصبح جلوس الفتيات عاريات ( " الموديلز" وهي تسمية فى غاية الحقارة والإهانة للمرأة) أمام الرسامين الذكور كي يدرسوا عليهن تشريح الجسد أمرًا طبيعيًا ومستساغًا، فكله فى النهاية " فن "!
** ** **
2- أغنية: In Da Club نموذجًا:
نعيش الأن عصر " ما بعد الحداثة "، وهي مرحلة تاريخية بدأت مع نهاية الستينات من القرن الماضي، وتتميز بعدة سمات يمكن استبيانها من خلال تحليل بسيط لأغنية In da club، فنحن نذهب الى أن " فن " كل عصر يحمل سماته ومفاهيمه ورؤيته لذاته وللكون.
وقد اخترت هذه الأغنية بالذات لسبيين:
الأول هي أنها تقريبًا تحمل كل سمات حضارة عصر ما بعد الحداثة.
الثاني هي أنها أغنية شهيرة جدًا مما يسهل على كل من يقرأ أن يجدها ويحللها معي.
ولنبدأ بالتعريف..
أغنية In da club أحد أشهر أغاني مغني الراب الأمريكي 50cent، وتُغنى ، تسميتها بالأغنية هنا تجاوزًا، فى مساحة 4 دقائق
ولنبدأ معًا تحليلها..
1- الموسيقى: (ألية) بسيطة الى حد يثير الغيظ، رتيبة متكررة الى حد كبير، تشبه فى حركتها وتكرارها الممل حركة الآلة، والآلة هنا تمثل مفهومًا كامنًا فى الحضارة الغربية منذ بداية عصر التنوير، اذًا حركة الموسيقى رتيبة متكررة مملة، ولن أبالغ لو قلت أنها مادية الى حد كبير، وهو أمر معتاد فى الموسيقى والغناء الغربي بعامة حتى وإن ظهرت على السطح بعض التشكيلات الموسيقية المختلفة الا أنه فى خلفية الأغنية تستطيع، ان كنت تمتلك سماعة جيدة، أن تتبين نمطًا معينًا من النغم يتكرر برتابة مملة، وقد تسلل هذا النمط من التلحين الى غنائنا للأسف ضمن ما تسلل الينا أمور يتفاخر بها البعض لأنه يصبح بفعلها متحضرًا!
ويمكن بوضوح شديد تبين نغمة التكرار والرتابة الألية المقيتة من خلال سماع أخر دقيقة من الأغنية التى تتكرر فيها النغمة بشكل متعمد كأنها تقول لك:
نحن نكرر أنفسنا لنغيظك!

وأحب أن أشير هنا الى نقطة أراها هامة، وهو موضوع التخليط الذى يحدث عمدًا فى أغاني بعض الفرق الغنائية المصرية الحديثة التى سمعتها ( "وسط البلد" أو "قص ولزق" على سبيل المثال) بين الموسيقى الشرقية والغربية، بنسب كبيرة جدًا للآلات الغربية، أوبين كلمات شرقية كشعر أو ذكر مثلا وبين موسيقى غربية، يمكن للمدافعين عن هذا أن يتحدثوا عن ثقافة السلام وتمازج الحضارات وكل هذا الهراء، يصبح هذه مفهومًا ومقبولاً من وجهة نظري اذا كان يوجد مقابل له، أى اذا وجدنا فرقًا غربية تزاوج بين الموسيقى الشرقية والغربية بهذه الطريقة، وبغير هذا فإن الأمر لا يعدو كونه صورة أخرى من صور الإنبطاح الحضاري للغرب.
يعضد وجهة نظري فى هذه النقطة جو هذه الحفلات ( الفنية) الغربي تمامًا وجمهورها الذي يتكون فى أغلبيته الساحقة من فئة الشباب المنتمي الى الطبقات الإجتماعية فوق المتوسطة والغنية والذي يبذل قصارى جهده للتشبه بالسادة فى مانهاتن!
2- الكلمات: ثمة تركيز شديد على الرغبات السفلى ( المال - الجنس - المخدرات )،
يؤكد هذا على جوهر النموذج المعرفي الكامن للإنسان داخل المنظومة الفلسفية الغربية التى ردته الى عناصره المادية فحسب، وجعلت هدف حياته يدور حول مبدأي اللذة والمنفعة فقط،
وقد اضطرت اذاعة عربية متخصصة فى بث الأغاني الأجنبية، حين اذاعتها لتلك الأغنية، أن تقطع منها لحيظات عديدة لإخفاء كلمات ك ( Sex- Fuck- Drugs) التى تكررت بكثرة على مسطح زمني يبلغ 4 دقائق تقريبًا هو زمن الأغنية، مما أفقد الأغنية أى معنى.
مما يلاحظ أيضًا أنه ثمة انفصال كامل بين طريقة ( الغناء) والموسيقى، فكل يسير فى طريقه، يمكن أن نضع هذا ضمن ما يطلق عليه د. عبد الوهاب المسيري ( انفصال الدال عن المدلول)، حيث أنه بما أننا فى عصر السيولة الشاملة حيث لا قواعد تحكم أى شئ، بالتالي يمكن وضع أى شئ بجوار أى شئ، بل وعلينا قبوله باعتباره " فن
وربما لهذا السبب فإن الموسيقى الغربية ( يدخل ضمنها الغناء) مهما بلغت درجة جمالها لا تُطرِب، عكس الموسيقى الشرقية ( القديمة)، التى يجب أن تتمازج فيها الموسيقى والكلمات ولا تنفصل، حيث هناك هدف ما للأغنية، حيث هناك رؤية ما للكون.
ومما يلاحظ أيضًا طريقة نطق الكلمات، تلك اللهجة الغريبة، لست مجيدًا للإنجليزية لكنى أدعي القدرة على التمييز بين الإنجليزية الراقية، الإنجليزية الفصحى ان صح هذا التعبير والتى كان يتحدث بها الانجليز الى وقت قريب، وبين هذه اللهجة المسخ التى تمثل تحديًا لكل قواعد اللغة والنطق، مرة أخرى نحن ندور فى فلك فكرة تحطيم كل القواعد والمطلقات وأشباه المطلقات.
3- الصوت: عصر السيولة الشاملة يأتى لنا بكل جديد، فبعد أن كانت ( القاعدة ) هي أن الغناء لكل ذي صوت جميل، تم تحطيمها وأصبح الغناء لكل من يمتلك القدرة على دفع ثمن " تعبية شريط".
لا يوجد صوت مطلقًا ولا يمكن تسمية هذا غناء، ومع ذلك فإنه علينا قبول ذلك والا فلن نكون متحضرين!
4- التصوير: تعضد الطريقة التى صُوِرَت بها الأغنية كل ما سبق، حيث تم تصويرها فى ملهى ليلى، ولعل خشبة الرقص فى أى ملهى ليلي هي الصورة المجازية الأساسية المعبرة عن الحياة الغربية، خصوصًا وحين يكون الرقص بهذه العشوائية، يتحرك كل فرد كما يحلو له باعتبار هذا رقصًا، يتصادم مع غيره ربما، لكن لا يهم، لايهم أيضًا أن تتوافق حركة الجسد مع الموسيقى، انتهت تلك الأزمنة السعيدة التى كانت حركات الرقص فيها تتوافق مع الموسيقى، وفى الملهى الليلي كل شئ قابل للتفاوض وللبيع والشراء، ابتداءً بالخمر وانتهاءًا بالأجساد، فلا قداسة لأى شئ، فى الملهى الليلي الكل يتحرك، لكن ما الهدف؟
المتعة.. اللذة.. المنفعة
ولكن على الرغم من تلك الفوضى الظاهرة الى أنه يوجد من يحكم سيطرته على المكان، بلطجي أو زعيم عصابة غالبًا، توجد سلطة ما تعمل على فض المنازعات حفاظًا على استمرار الحركة وجني الأرباح وبقاء اللذة والمنفعة كقيمتين أساسيتين.
ذلك البلطجي أو زعيم العصابة هو ما يمثل فكرة " الدولة المركزية القومية الحديثة "، التى يبدو أنها أكبر اشتغالة فى التاريخ الحديث. ولكن هذه قصة أخرى.
________________
الى..
د. عبد الوهاب المسيري..
أستاذي العظيم.. علمك يُنتَفَعُ به وأجرك موصول الى يوم القيامة بإذن الله.
د. إيهاب يونس.. طالت الغيبة، دمتم ودام فضل علمكم علينا.
محمد علي.. لعلي لا أخيب ظنك.



هناك ٥ تعليقات:

غير معرف يقول...

المقال من اوله فيه رائحه ((مسيريه)) قويه جدا .. انت اللى بتعمله انك بتشرح افكار د.عبدالوهاب وبتستخدم نفس طريقته فى (التفكيك) واستخدام (النماذج التركيبيه)لما بتحلل الاغنيه

وده فى حد ذاته رائع .. خصوصا بالنسبه لواحد زيي قرب يقدس د.عبدالوهاب

بالتوفيق دايما ان شاء الله يا احمد
:)

Umzug Wien يقول...

تمنياتنا لكم بالمزيد من التقدم والازدهار
شكرا لكم

أخبار يقول...

ممتاز جدا
شكرا جزيلا

اسعار العملات يقول...

مدونه قيمه
شكرا جزيلا

Umzug Wien يقول...

الموضوعات قيمه والمدونه ممتازه
شكرا جزيلا لكم