الخميس، ٨ مايو ٢٠٠٨

أزهار بيسان تنبت نجيمات صغيرة متألقة

أى جمال ذاك الذى وقفنا لنطل عليه من أعلى تلك الربوة ببيسان.. كانت الشمس – أمامنا – تنسحب ببطء الى الغرب وهى تجر ورائها ذلك الثوب الذهبى المنثور بدقة على الزهيرات.. وكان الوادى كله بالأسفل يتألق مرسلا الينا شذرات رائحة الزهر الفواحة لنرصع بها مشامنا.. التفت الى الوراء فوجدت – على البعد – أعمدة معبد بيسان الرومانى الشهير تغطى مساحة من الجبل..أما المقابر القديمة فقد كانت تحتل مساحة ما غرب الربوة بأكملها.. وكنت أنظر لعليّ اذ يقول بفخر يعلوه رماد الحزن: هذه هى بيسان.. أرضنا.
لم آبه لنبرة حزنه وقررت أن أستمتع بهذا الجمال قدر الامكان.. نظرت الى ساعتى وقدرت أن أمامى 4 ساعات على الأكثر لأعرف أنى أكبر أحمق عرفته فى حياتى، فالأسطورة التى جاءت بى الى هنا لم يكن من المعقول أن أصدقها أنا ذلك الصحفى المثقف المبعوث من قبل جريدته القاهرية لمتابعة آخر التطورات على الأرض الفلسطينية..الا أن رغبة ما جامحة سيطرة على عقلى وقلبى، ربما هو الفضول الصحفى، ربما هو البحث عن نقطة ضوء فى ذلك الظلام المحيط، ربما الاثنين ممتزجين جاءا بى الى هنا مخترقا وسط اسرائيل حيث القدس الى نابلس ثم الى بيسان عبر الطرق غير الشرعية باستضافة صديقى عليّ وقيادته اذ كان مرسلا من جانب أهله الذين يعرفون الأسطورة لاخبارى ومحاولة اثبات ذلك الكشف وكنت ساعتها شخصا غير مرغوب به داخل اسرائيل بعد عدد من الفضائح التى كشفتها مما أدى الى انتهاء فترة تكليفى اجباريًا. وبيسان كان الطريق اليها حزينا بقدر ما كان جميلا.. فقد كان مسيجا بالأشجار التى تكتنفها بين الفينة والأخر الآثار الحجرية القديمة للبيوت التى هجرها أصحابها.. وكانت تلك الأحجار – على صفرتها التاريخية- تعتريها دكنة خفيفة لا تعرف ان كانت من آثر الزمن وتكالب ظروف الطبيعة والتعرية عليها أم أنه مجرد تكاثف لزخات المطر وهبات الريح المشبعة بغبار البارود، أم أنه حزن ثقيل قد غطى بجناحه الأسود الطويل المنطقة وأصاب البيوت الحجرية منه ما أصابها.
انتبهت من خواطرى تلك على احمرار الشفق وقرب اختفاء قرص الشمس تماما..نظرت الى الجانب الأخر من السماء فوجدت البدر بازغا ينتظر تمام اختفاء الشمس حتى يتمم كمال خروجه من تحت السحب.. نظرت الى عليّ فوجدته يزداد توترًا مثلى..وكانت المشاعر التى تعترينا واحدة تقريبا رغم اختلاف المقاصد.. فهو كان يخشى على سره الذى أخبرنى به أن يتضح عدم صدقه هو الذى أصر أن يصحبنى الى هنا متحملا كافة التبعات.. وكنت أنا أخشى أن أسحق علىجدران هوة الظلام العميقة بعد فقدانى ذاك الأمل والنشوة التى بعثت الىّ فجأة وكنت قد قررت ساعتها أنه كتبت علينا الهزيمة آبدًا..
نظرت الى السماء فوجدت البدر قد اكتمل بزوغه فيممت وجهى شطر المقابر وبدأت أنتظر.
قلت لعلىّ :أمامنا ساعتان فقط.. اما أن يظهر شئ أو سنعود أدراجنا
قلتها وأنا أبتلع ريقى..فرد على أن نعم.
بعد نحو ربع الساعة بدأت البشائر تظهر، كان الأفق كله يزدحم بسحاب ثقيل غير عادى وقدرت أن أمامنا وقت قليل حتى تأتى تلك السحب على القمر فتحجب عنا مصدر ضوئنا الوحيد..
لكن الاثارة لم تكن قد بدأت بعد..
قال عليّ : هذه هى البشائر الأولى.. انتظر شيئا سيئا يحدث لاسرائيل خلال يوم أو يومين.. هذه هى القاعدة
فجأة ظهرت فى أذنى موسيقًا ما..جنائزية على الأرجح صاحب ظهورها انبثاق الصغيرة من العدم..
هل أصفها؟
ربما يمكننى القول أنها كانت تسير بالنور.. كانت تضع يدها على زهيرات المقابر فتشع فجأة نورًا وبهاءًا ثم تتوالد منها نجيمات لازوردية صغيرة تمارس حركتها الحلزونية الملتفة.. تخبو وتضئ.. تتألق بضوئها وضوء أمهاتها من الزهيرات ثم انطلقت فجأة الى السماء ومع انطلاقها صرخت الفتاة بأجمل صوت سمعته فى حياتى بعد أن يممت وجهها شطر السماء:
لا تحجب أَمَتك عن استغاثة.. اقترب يوم أدعوك*
ومع صرختها وثبت كل الزهيرات على كل المقابر الى الأعلى وانطلقت منها نجيماتها الخاصة وصعدت الى الأعلى وراء نجيمات ذلك القبر الذى اختارته الفتاة الصغيرة
كنت أنظر الى الموقف ذاهلا.. فما يحدث كان خارقا للطبيعة.. شديد الغرابة..وكان الأمل والفرحة بداخلى يتسعان كنقطة نور كبيرة كبرت لتسع العالم كله .. كنت أنظر وأنظر وأنظر غير قادر – حتى – على رفع الكاميرا.
_________________________
(*) من أحد ترانيم السيدة فيروز بتصرف

هناك تعليقان (٢):

Unknown يقول...

بترسم الحالة بشكل يخلى الواحد يعيشها بسهولة من غير ما يحاول يستحضرها بالعافية عشان يفهم

تحياتى

كوارث يقول...

متهيقلي قريتها قبل كده يا أحمد
واحده من روائعك
انتا بطلت كتابة صحيح ولا ايه يا عم