الاثنين، ٧ يوليو ٢٠٠٨

غزو الرعاه..

بدون الخوض فى مقدمات طويلة مملة سأبدأ..
مرة أخرى نعود الى ثنائية " الرعاة والزراع "، الصراع الأبدى بين الرمل والطين، ولمرة ثالثة أؤكد: الحضارات لا يمكن لها أن تنبت فى الصحراء، الحضارات تنبت بشكل رئيسى على ضفاف الأنهار، وبشكل أقل أهمية على شطئان البحار.
بكل المقاييس نحن نواجه عصرًا استثنائيًا، هذا مفهوم بالنسبة للظروف السياسية والإجتماعية والإقتصادية، وأعتقد أنه بات مفهومًا لى أيضًا بالنسبة لحركة التاريخ..
نحن نواجه موقفًا أشبه بتسونامى، على حد علمى يحدث تسونامى حين تتحرك الألواح التكتونية المكونة لباطن الأرض، تحت البحر مما يتسبب فى تكوين أمواج ذات أطوال عملاقة، وقوة تكثيفية رهيبة، تضرب السواحل وتدمرها.
صحيح أن الأمور تعود بعد ذلك الى طبيعتها، لكن ال Landscape الخاص بالساحل يكون قد تغير تمامًا.
هذا هو موقفنا الأن..
تغير عميق فى مجرى حركة التاريخ، ناشئ عن ظروف مفاجئة، ستختفى بعد قليل، وستعود حركة التاريخ بعدها كما كانت، لكن التأثير العميق لتسونامى التاريخ الحاصل الأن، سيمتد الى آفاق أرى أنها أبعد من المستوى المنظور.
فلنفسر..
على مدار التاريخ تتكرر - بالحاح شديد - متتالية استراتيجية معينة، الرعاة دائمًا يهاجمون الحضارات الزراعية المستقرة، غالبًا يكون الرعاة أقوى من ناحية التكنولوجيا العسكرية - لاحظ أن الهكسوس انتصروا فى مصر لأنهم استخدموا الحصان والعجلة الحربية - رغم أن الزراع أقوى حضاريًا، لكن أسلوب حياتهم المستقرة غالبًا ما كان يدفعهم الى الاسترخاء، - أدرك المصريون خطأ هذه النظرية فيما بعد فى عصر الدولة الحديثة ومن بعد الإنتصار على الهكسوس تحديدًا وقد أنجبت مصر بعد ذلك عددًا من أعظم الملوك المحاربين أبرزهم كان التحامسة والرعامسة - فيما أن الصراع على " الماء والكلأ " - ستتكرر هذه الثنائية كثيرًا بعد ذلك كما سنرى - بين الرعاه يدفعهم الى الإبداع على المستوى التقنيات العسكرية..
وهكذا..
فإن مصر - كمثال على أعظم وأقدم حضارة زراعية عرفها العالم - حكمت من قبل الرعاه 1900 عام من تاريخها كمستعمرة، ويكون الحكم إما عسكريًا مباشرًا عن طريق الإحتلال، أو تكون مصر دولة مستقلة تحت حكم أسرة أجنبية، بدأها الهكسوس حين اغتصبوا نصفها الشمالى 150 عامًا تقريبًا بشكل شديد الشذوذ وسط العصر الفرعونى الممتد الى 3000 عام تقريبًا، مرورًا بالفرس، وصولاً الى العرب والأتراك الذين كانوا آخر من حكم مصر من الرعاه.
وبصرامة شديدة تتحدد نتيجة الغزو فى صورتين لا ثالث لهما: إما الذوبان فى الحضارة الأعلى، وإما الإستعصاء على الذوبان وهذا معناه - بكل تأكيد - الطرد.
لاحظ ماذا حدث للهكسوس حين رفضوا الإختلاط بالمصريين واعتزلوا فى نصف مصر الشمالى، وفى المقابل دمغ العرب حضارة مصر تمامًا ونهائيًا بالصبغة العربية الإسلامية لمجرد اختلاطهم بالمصريين.
أى أنه فى غالب الأحوال وفى حقيقة الأمر تكون مصر هى الغازية وليست المغزوة، وإذا كانوا هم يحكمونها سياسيًا أو عسكريًا، فإنها تملكهم ثقافيًا وحضاريًا.
السؤال الأن:
هل يستطيع الرعاة أن يغزوا الزراع حضاريًا؟!

لمرة ثالثة أكرر: الحالة الإسلامية حالة خاصة جدًا لا يمكن القياس عليها، وربما هذه أحد أوجه اعجاز الإسلام أن يغزو الزراع - وهو ذلك الدين ذو الجذور الصحراوية الرعوية - ويحولهم إليه، ويدمغهم بثقافته.
المهم أنه على حد علمى على مستوى التاريخ لم يحدث أن غزا الرعاة الحضارات الزراعية المستقرة غزوًا حضاريًا، وفى الواقع لم يكن بإمكانهم هذا لأنه - ببساطة - لا يستطيع الرعاة فرض أسلوب حياتهم البسيط على أسلوب الحياة المعقد بطبيعته فى الحضارات المستقرة.
كيف - إذن - يمكننا تفسير ما يحدث الأن؟
ربما للمرة الأولى فى التاريخ يحدث أن يصبح الرعاة أغنى ماديًا من الزراع، لأسباب تتعلق بأن أرضهم تطفو على بحار من البترول هي الأكبر فى العالم، ليسوا مسئولين عن هذا، ولكن مع سلعة بهذه الأهمية الإستراتجية كان طبيعيًا أن يتحولوا الى طبق العسل الذى يعف عليه ذباب العالم، وأن تصبح هذه المنطقة من أهم مناطق العالم بعد أن كانت منسية طوال التاريخ تقريبًا.
وسأتطرق هنا الى التقاءٍ غريبٍ جدًا..
الولايات المتحدة هى حضارة أمفيبية عظيمة، أى تجمع بين قوتى البر والبحر، وقبلها بريطانيا كانت حضارة بحرية عظيمة..
سأركز هنا على الولايات المتحدة لأنها أقرب للذهن.. الولايات المتحدة التى تضع قدمًا فى البر وقدمًا فى البحر، وتمتلك عقائد، وأسلوب وطريقة ونمط حياة وثقافة وألاف التفاصيل الأخرى المختلفة جذريًا عن حياة الصحراء، قد ذهبت الى الصحراء..
حسب مقدمة الفيلم الأمريكى " The Kingdom " فإنه فى البداية أقام السعوديون جيتوهات مغلقة للأمريكيين، أو الغربيين بعامة، حول حقول النفط، حتى يحافظوا على أنفسهم من " الفسق " الأمريكى المعتاد..
لكن كان هذا بالطبع قبل عصر الفضائيات والسماوات المفتوحة، حيث أصبح الغزو الحضارى فى كل بيت سعودى، وحلت الكارثة..
كان التقاءً غريبًا جدًا فى الواقع - ربما هو الأول من نوعه فى التاريخ - لقاء بين قمة الحضارة الإنسانية المعاصرة، ومجموعة قبائل كانت الى وقت قريب جدًا تعيش وليس فى عقلها الا البحث عن ثنائية " الماء والكلأ " الشهيرة..
ولكن الاحتكاك لم يكن سهلاً، ولم يمر بسلام فى غالب الأحيان، لأن هذه القبائل فى النهاية - بل فى البداية - مسلمين، والإسلام دين على قدر مرونته على قدر قوته، ومستحيل أن يكسر فى نفوس معتنقيه.

يمكننا تلخيص الموقف فى النقطتين التاليتين:
1- حضارة غازية مبهرة جدًا تدخل كل البيوت، ممتعة جدًا، كما يقولون تقدم جنة صناعية مبانيها سندوتشات برجر وكلاب ساخنة، وتجلس حسناواتها عاريات على شواطئ بحار البيبسى والكولا.
2- تقاليد قديمة، ولكنها ثابتة فى النفس ثبات العقيدة، المشكلة هنا أنها ليست مبهرة بالقدر ذاته، أو حتى بالقدر الكافى، فى الواقع ليست مبهرة على الإطلاق، ولا تقدم أى نوع من أنواع المتعة، فقط هى تعد بمتعة فى العالم الأخر اذا أنت سمعت كلام الشيخ فى الدنيا وكنت لطيفًا..!
والنتيجة؟!
النتيجة يمكن أن تكون موضوعًا لدراسة متكاملة فى علم النفس..
سمك لبن تمر هندى باختصار شديد..
يمكنك أن تلاحظ هذا بمنتهى البساطة حين تفتح أى قناة خليجية، وانظر كيف يختلط الماكياج الفاقع للمذيعات والممثلات باللهجة البدوية القحة..!
انظر كيف هى ألاعيب النفس حين - بمعجزة ما - يتزحزح طرف الحجاب الى الداخل قليلاً مفسحًا الطريق، ومجال الرؤية للناظرين، لبعض خصلات الشعر بالتمرد والنزول على الجبهة. لا ريب أنها تقول لنفسها أنها لا زالت محجبة.
ودلائل أخرى كثيرة تدل على انتصار - ولو جزئي - للغزاه.
وكان رد فعل المحافظين عنيف بالفعل، ليس فقط اعتمادًا على قوة الغضب، وإنما اعتمادًا على قوة المال الذى جاءهم فجأة.
منذ 15 عامًا فقط لو قال أى خبير اعلامى أنه فى المستقبل سوف تكون هناك قنوات دينية يجلس فيها الشيوخ الذين يرتدون الجلاليب القصيرة وتحتها السراويل القصيرة، ومن فوق رؤوسهم الطرحة البيضاء، وبحركة أفواههم تتحرك لحىً ذات أطوال مفرطة - كان هذا هو الشكل المثبت فى ذهن العامة بالنسبة للإرهابيين - لاتهم بالجنون، ووضع فى مصحة للأمراض العقلية فورًا..
لكن هذا هو ما يحصل الأن، فجأة ظهرت مجموعة من القنوات التى يظهر فيها مجموعة من الشيوخ - مع كامل إحترامنا للشخصيات الكريمة - يرتدون الجلاليب القصيرة، ومن تحتها السراويل القصيرة، ومن فوق رؤوسهم الطرحة البيضاء إياها، وبحركة أفواههم تتحرك لحىً ذات أطوال مفرطة، وبحركة أفواههم أيضًا يفرضون علينا فقهًا وطريقة حياة، لن تكون سبة إذا قيل أنها
من المستحيل أن تناسب أحدًا الا الرعاه، ونحن - لحسن الحظ - لسنا رعاه.
أذكر ذات مرة على أحد هذه القنوات " المصرية " - كلها مصرية فى الواقع - كان هناك شيخ يتحدث عن شروط الإنتماء لأهل السنة و الجماعة، ولن أتحدث عن هذا، فقط سأتحدث عن طريقة نطقه للكلام، عن طريقة كتابة اسمه السعودية، رغم أنه بالفعل مصرى..!
وخذ عندك من هذه القنوات الموجهة لمصر، ومصر بالذات، الكثير..!
هل يمكن أن نعد هذا غزوًا ثقافيًا؟
هل يمتلك الرعاة الأن حضارة تؤهلهم لغزو الحضارات الأعلى المستقرة؟!
هل يصنع المال وحده الحضارة؟!
يثبت لنا التاريخ أن طريقة تعامل الرعاة مع الحضارات الأعلى لا تعدو أن تكون إما الغزو، وإما الاستيلاء، واوضح مثال على الإستيلاء ما فعله السلطان سليم الأول العثمانى حين استولى على مصر..
فقد نقل كل العمال والفنانين المصريين المهرة الى عاصمته.. الى استنبول كي يبنوها له، وكان هذا دليلاً لا أقطع منه، وبرهانًا لا أسطع منه على الفارق الرهيب بين مستوى الحضارتين.
وهذا بالظبط ما يحدث الأن..
الرعاة لا يبنون حضارة، وإنما يشترونها..
لاحظ كيف هى دبي الأن؟
لاحظ كيف هى مبانيها، وكيف هى نوعية الحياة فيها؟!
يحكى الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل انه كان ذات مرة فى باريس ووجد مجموعة من الأغنياء العرب يشترون عددًا من أجمل اللوحات، ومن أعظم الكتب، هم لن يفهمونها، ولن يقدروا معانيها، فقط هم يقلدون..!
" شبعة بعد جوعة " إذا نحن استعملنا التعبير العامي العبقرى..
ومع ذلك هم يريدوننا أن نتمثل بفقههم وبحياتهم لأنهم، وهم فقط، يسيرون حسبما يرى الكتاب والسنة..!
الجمعة الماضية وقع فى يدي كتيب صغير للشيخ بن عثيمين يرحمه الله، الكتاب كان اسمه " فتاوى هامة للشباب"، كان يوزع " مجانًا! " على المدعوين فى فرح أحد أقارب صديقِ لى.. جاءنى به صديقى متعجبًا وقال انظر..
لن أعلق على الشيخ بن عثيمين، فهذا ليس من حسن الأدب مع العلماء، لكنى أهاجم بشدة من يصرون على نشر هذا الفتاوى فى مصر، على اعتبار أنها هي، وهي وحدها، الدين الصحيح..
وكان هذا واضحًا أشد الوضوح فى الفتوى " الصحيحة " التالية:
سؤال: هل يجوز استقدام الأيدى العاملة من غير المسلمين؟
ج: لا ريب أن النبى صلى الله عليه وسلم قد أمر باخراج المشركين من جزيرة العرب، وقال: " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلمًا ".
وهذه الأحاديث تدل على أن هدي النبى صلى الله عليه وسلم أن تبقى جزيرة العرب ليس فيها الا مسلم لما فى وجود النصاري وغيرهم من الكفار فى الجزيرة من الخطر.
وهذه الجزيرة بدأ منها الإسلام وانتشر فى أرجاء العالم وإليها يعود، كما ثبت فى الصحيح: " أن الإيمان يأرز فى الجزيرة كما تأرز الحية الى جحرها".
وإذا كان كذلك، فإن استقدام غير المسلمين الى هذه الجزيرة فيه خطر عظيم، ولو لم يكن من خطره ومضرته إلا أن المستقدم لهم يألفهم ويركن إليهم، وربما يقع فى قلبه محبة لهم، وتودد إليهم.
الشيخ يرحمه الله كان واضحًا.. هو عالم يسكن الجزيرة، والسائلون يسكنون الجزيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم أوصى باخراج غير المسلمين من الجزيرة فعلاً.
السؤال المنطقى جدًا الأن: ما علاقتنا نحن بذلك؟!
لماذا تأتى هذه الفتوى الى مصر؟!
وما هو الغرض من ذلك؟!
لاحظ أن نهاية الفتوى تحض صراحة على كراهية أهل الكتاب، غير الموجودين اصلاً فى السعودية بالأمر النبوى الصريح، فكيف الحال بمصر التى - غير أن فيها أهل كتاب من قديم الأزل - فهى بحكم التاريخ والجغرافيا تتعامل مع العالم كله من قديم الأزل، وفكرة تقبل الإختلاف فيها فكرة منطقية للغاية، بل ومعضدة للسلام الإجتماعي.
وكانت مجموعة الأسئلة الأخرى بالفعل تعبر عن عقلية كانت الى وقت قريب جدًا لا يوجد ما يشغلها سوى البحث عن ثنائية " الماء والكلأ" الشهيرة، بل ويغزوها الحنين الى هذه الأيام السعيدة.
أحد أوجه الاختلاف الأخرى الكثيرة التى تحدثت فيها مع صديق سلفي كانت اختلاف الرؤية تجاه قضية الإختلاط، قلت أنها قضية اجتماعية بحتة..
فى الصحراء تقوم الحياة فى الخيام، المساحة الواسعة تعطى براحًا للإبتعاد، والتقاليد البدوية الصارمة تزيد القيود على أى خروج للمرأة خارج خيمتها، فيكون الحل فى روابط الدم..
فى مصر يختلف الأمر..
القاهرة القديمة كمثال..
انظر الى ضيق مساحة الوادى، هذا الضيق فرض أن تكون البيوت متلاصقة، مما يجعلك - أعتذر عن التعبير - تسمع غنج جارتك أثناء وجودها مع زوجها فى الفراش.
هذا الضيق فى المساحة المتوفرة للسكنى يفرض نوعًا ولو مبسطًا من الإختلاط، كما أن الحياة السهلة بطبيعتها تجعل الأمور أكثر تفتحًا من الحياة القاسية فى الصحراء..
دعك بالطبع من حقيقة أن المجتمع النبوي ذاته لم يكن شديد الفصل بين الجنسين بالصورة التي يريدونها أن يبدو عليها
وكان المثال الأخر الذى ناقشته معه واقنعه ذلك أشد قوة..
فكرة الغناء التى يقترب بها الاخوة السلفيون من الكفر..!
أحد أجمل تترات المسلسلات العربية فى التاريخ وهو تتر مسلسل " المال والبنون " فيه مقطع شديد الروعة يقول:

لا المال ينور طريقي
ولا البنون بلو ريقى
عملى ف حياتى رفيقى
ف وقفة الأخرانية




وكانت مفاجئة لى حين غناه معى صديقى السلفى..!
وعلق عليه مستحسنًا..!
قلت: هكذا صاغ الشاعر المصرى العبقرى العلاقة الإسلامية الصحيحة بين الدين والدنيا فى جملتين، وقدمها لنا من خلال صوت جميل.
وقلت أيضًا: السعوديون أو السلفيون المتشددون عمومًا لن يمكنهم فهم ذلك، لأن الحياة هناك مختلفة، أشد قسوة.
والخلاصة هنا:
أنا لا أعيب انتشار الفقه السعودي - ولا أقول الوهابي كما يردد الكارهون عمومًا - فى السعودية، وإنما أرفض كل الرفض أن ينشر هذا الفقه فى مصر استغلالاً لتدين شعبها الفطري، واستغلالاً أكثر لفترة شديدة الإستثناء من حركة التاريخ أصبح فيها الرعاه - وياللعجب - أغنى من الحضارات الزراعية المستقرة.

ليست هناك تعليقات: